الصحفي التائه

بواسطة | 17 مارس 2019 | قراءات | 5 تعليقات

منذ أسبوع وقّع الدكتور جورج عبد الأحد كتابه الثاني “الهلال الخصيب في الذاكرة وفي النسيان” سجل فيه أحداثا أو تاريخا يهدده النسيان. وكان من عداد الشخصيات المغمورة التي ألقى عليها الضوء، صحفي يُعتبر لما جمع من خصال شاذة، طريفة ومتناقضة، “ظاهرةً” بالمعنى الفرنسي والدقيق للكلمة (Un phenomene). إنه الإستاذ اسكندر الرياشي الذي نقل لنا الكتاب شيئا من تاريخه والذي قال عنه أنسي الحاج: “إنه لا يتمسخر بل يضع حاله على الورق، طرافته أنه يتعرى بالكامل، لا يضحك أبدا، لكنه يُطقطق من الضحك”. يصطاف في موطنه الصغير زحلة ويقضي الشتاء في بيروت متنقلا بين إدارة جريدته وبين أندية القمار ودور السينما ومراقص العري.

أما كيف أصبح الرياشي صحفيا؟ يروي ذلك بنفسه متعريا بالكامل كأنه في علبة من علب الليل فيقول: حاولت في أول حياتي أن أكون محاميا “دجالا” فلم أنجح، موظفا، فلم أطق نير الوظيفة… سافرت الى أميركا وعدت منها مفلسا لأني لم أستطع حمل “الكّشة”. جربت المتاجرة بشبابي بالمعنى الذي يعرفه المحظيون في باريس، فوجدت التجارة كاسدة لا ربح فيها… في بلد تعتقد فيه كل امرأة أنها أجمل من بلقيس واكثر إغراء من كليوبترا… ثم حاولتُ أن أكون عاشقا خياليا مجنونا وقفت على ضوء القمر وتحت نافذة الفتاة التي أحببت، حتى لفحني البرد ولازمتني نزلة صدرية لست شهور… ثم تحررت من قيودي العاطفية لأجرب المقامرة. مضى علي وأنا أقامر عشرون سنة وما زلت مغمض العينين لا أميز بين اللعبة الشريفة والمشبوهة. اشتغلت سكريتيرا لأحد العظماء والأثرياء الأمريكيين… علمته القمار فخسر كامل ثروته. وحالت بيني وبين الدير أو الجنون ابتسامةُ وصيفة في احد الفنادق الباريسية حيث كنت أقيم، ففضلت حرارة فمها على حرارة أفريقيا.

رأيت، وأنا ذات يوم في بعبدا، أحد الصحفيين وأظنه عبود ابي راشد، يدخل على الباشا المتصرف كما لو كان يدخل على صديق… فحدثتني نفسي أن أكون مثله. استحصلت على رخصة جريدة سميتها “البردوني”… وأعتقد أنني أول صحفي زاول هذه المهنة وهو يكاد يكون أميا. تعلمت فن الصحافة كما يتعلم الآخرون فن الرقص.

يقول الدكتور عبدالله سعادة رئيس الحزب السوري القومي الإجتماعي: في صيف 1961 توفيت زوجة الرياشي فتوجهت الى الجبل لأعزيه. وأحبَّ أن يبرىء نفسه من تهمة الوشاية بالزعيم قال: كنت مسؤولا مهما في المكتب الثاني الفرنسي وكنت أتغدى واتعشى مرارا في بانسيون مدام حداد. وكان ذلك الشاب الملتحي انطون سعادة يحدثنا دائما بتعابير غير مألوفة في أوساطنا السياسية والشعبية كالقضية القومية والتراث والتاريخ والأمة والمجتمع. كنت أراقبه ولا أفهم عليه. وخلصت الى الإستنتاج أنه عبقري تائه أوإنسان غير عادي وكنت أميل الى الرأي الثاني.

ثم علمت أنه زعيم حزب سياسي يحارب الإنتداب الفرنسي. فخفت على نفسي من ملاحقة السلطة الفرنسية. اختفيت عدة أيام. ولم أذهب الى المكتب. كنت أتلمس الأخبار وأقرأ الصحف، ولما لم يَرِد حولي سؤال أو اهتمام، نزلت الى المكتب وأعلنت أنني كنت مريضا… فأرجو أن يبيض الحزبُ صحيفتي من تهمة الوشاية بأنطون سعادة. فأنا لم أكتم ولم أشِ”.

ذات مرة قال له المفوض السامي الفرنسي: ” يوجد في البقاع شخصيات معادية للإنتداب. وعلى اعتبارك يا اسكندر من زحلة فنحن نسألك ما علاج هؤلاء؟ أجابه: العلاج معروف، ندفع المال. سأله المفوض السامي: كم يكلف الموضوع؟ قال الرياشي يكلف ثلاثين ألف ليرة أنكليزية. فقد كان الرجال ستة. أخذ المبلغ على أن يدفع لكل واحد منهم خمسة ألاف. في طريقه الى البقاع، توقف في ضهر البيدر وقال: نسينا اسكندر رياشي! عاد فقسم المبلغ على سبعة وقال: الآن برطلنا اسكندر. استأنف المسير ليصل الى بعلبك قاصدا أحد السياسين من آل حيدر. بعد أن شرب القهوة سأله اسكندر: ما رأيك بالسياسة الفرنسية؟ قال حيدر: “نحن ظلمنا الفرنسيين، إنهم يبنون المدارس ويشقون الطرقات وصار عندنا حرية أكثر مما كان في العهد العثماني”. بعد أن أنهى اسكندر قهوته قال في نفسه: ما دام موافقا نحذف حصته. وضع المبلغ في جيبه وتابع طريقه الى باقي السياسيين والفعاليات الذين كان رأيهم إيجابيا اتجاه الفرنسيين.

بقي من الرجال القبضاي ملحم قاسم. ذهب اليه وبعد العشاء الذي حضره رؤساء العشائر سأله اسكندر: “كيف حالك يا أبو علي؟” أجابه ملحم قاسم: “صرلي كذا سنة بهالجبال فراري وتعبت هل بإمكانك التكلم مع صحابك الفرنسيين لإعفائي من المطاردة؟ أجابه الرياشي: “إنهم أصحابي ولكنك تعرف، كل شيء يُحل بالما.ل” قال ملحم: كم تكلف العملية قال اسكندر: خمسة آلاف ليرة.

أصدر الرياشي جريدته ثلاث مرات في الأسبوع، ووقع كتاباته باسم الصحافي التائه. كان يكتب في كل ساعة وفي كل وقت من أوقات الليل والنهار… فقريحته جوادة ونكته حاضرة… لا ينشر خبرا إلا وفيه تورية ولا يروي قصة إلا وتتغلغل النكتة بين سطورها، يحرر الجريدة منفردا بصفحاتها الإثنتي عشرة في ساعة واحدة. سماها البعض جريدة الصحفي التائه، وفتح صفحاتها لكتابات العشق والغرام وأخبار الجنس اللطيف ما أثار حفيظة الكنيسة فاستدعاه البطركُ وطلب منه الكف عن الكتابات المخلة بالآداب. لم يرتدع الرياشي فدعت الكنيسة لمقاطعة الجريدة.

بعد هذه الدعوة خرج الناس مباشرة من الكنيسة الى المكتبات متهافتين لشراء الجريدة. فأضطر الرياشي أن يُصدر في نفس اليوم طبعة ثانية. انتُخب الصحافيُ التائه نقيبا للصحافة اللبنانية عام 1947 وجُدّد انتخابه مرة ثانية فكتب يقول: “من بين سبعة نقباء سلفائي، كان خمسة لا يعرفون الكتابة أو يكتبون بفقر وجهل كاملين. “توفي الرياشي عام 1961 ودفن في بلدة الخنشارة التي تحدر منها.

الكتاب يستحق القراءة وما نشرت من ذخائره، كان بموافقة من دار سائر المشرق للنشر والتوزيع.

مهندس وكاتب لبناني

5 التعليقات

  1. إيناس ثابت

    مبروك للدكتور جورج عبد الأحد
    مباشرة.. من القلب

    صديق صديقي، من عرفته ذات مرة
    من خلال نص… شكتني ثريا ؟
    ما أكرمني به أستاذي وصديقي
    إبراهيم يوسف
    بنشره… في السنابل

    العقبى للكاتب الدكتور
    بمزيد من النجاح

    وهو مطالب بنسخة تحمل توقيعه
    عن باقة بنفسج
    وعن الهلال الخصيب .. المحتفى به

    مبروك مرة أخرى مع خالص
    موددتي وأمنياتي
    بالنجاح.. وحسن تسويق للكتاب

    الرد
    • جورج عبد الأحد

      العزيزة ايناس
      أتمنى لو ترسلي لي العنوان لأتمكن من تزويدك بالكتابين
      مع احترامي و تقديري

      الرد
  2. إبراهيم يوسف

    “الهلال الخصيب في الذاكرة وفي النسيان”، يستعيده لنا الصديق والكاتب الطبيب، جورج عبد الأحد في مؤلف جديد وأسلوب مميّز، تلا “باقة بنفسج” بفاصل زمني قصير. كتاب يستحق القراءة غير (المتعبة). بما حفل من حسن اختيار ولغة ممتعة لا تستلزم تسلسل أحداث القصة أو الرواية، فيمكن القارىء أن يختار ببساطة ما شاء من عناوين الكتاب. دون أن يتعلق موضوع العنوان بما قبله أو بعده. لتبقى للمطالع وحده حرية اختيار ما يشاء من القراءة بلا عناء.

    لكن المتلقي سيجد نفسه دائما أمام عمل متقن بما اختار، لتفضي به جميع أبواب الكتاب إلى صالات مكيَّفة، ومقاعد وثيرة تستحق متعة القراءة والتأمل، وهو ينفض الغبار عن الماضي، ويستعيد الذكريات الجميلة أو المستهجنة على السواء .

    كل الشكر للصديق للدكتور جورج عبد الأحد، ممن تَمَرَّتْ وانعكستْ صفحاتُ كتابه في عمق وجدانه. كيف لا..! وهو ابن دار السلام – أو – عروس البقاع؟ زحلة؛ المدينة التي نافستْ في الأدب والتاريخ؛ الشام والأندلس ووادي النيل وبغداد.

    شكرا للكاتب على مجهوده الرائع، وعلى إهدائي نسخة من الكتاب، وهو يكرمني – أكرمه الله – بخطه الأنيق وقوله اللائق اللطيف: “إلى الخال العزيز إبراهيم يوسف.. مع الاحترام والتقدير”. ويبقى الشكر والتقدير الأخير من حق الأخ الصديق الأستاذ عادل الحاج حسن على الإضاءة الوافية، وحسن اختيار ما تناوله في التركيز على الصحفي التائه اسكندر الرياشي.

    الرد
    • جورج عبد الأحد

      الخال العزيز
      اشكرك على دفء الكلمات و فيض المحبة التي غمرتني بها
      جورج

      الرد
  3. إيناس

    د. جورج عبدالأحد

    أخجلني كرمك يا سيدي فالصديق إبراهيم يوسف سيريحك من عناء إرسال ما تكرمت به عليّ، فيرسل الكتابين مع بعض القادمين إلينا للحج أو العمرة.

    مبروك مرة أخرى وألف شكر لك.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.