شعرية العنف في قصة “الاسنان الاكثر بياضا”

بواسطة | 1 أكتوبر 2019 | قراءات | 2 تعليقات

شعرية العنف في قصة “الاسنان الاكثر بياضا”

https://www.maghress.com/alittihad/1236750

دراسة لعبد الجليل لعميري من المغرب

C:\Users\ibrah\OneDrive\Documents\اجمل اللوحات الفنية العالمية  مشاهير رسامي العالم  Beautiful world paintings Famous painters of the world (3).jpg

عتبة :

” نص مر وقاس من مجموعتي القصصية القادمة، يكاد يكون سير ذاتي”، انطلقت من هذه التدوينة لأقرأ هذه القصة، وفي ذهني تحفظ واستفسار: هل هذا مجرد إشهار للنص ومحاولة إغراء بقراءته؟

وأنا اقرأ النص كنت أتخلى عن شكي تدريجيا…. وبعد الانتهاء من القراء ة الأولى صرخت: كم هو قاس هذا النص…. قاسية هي هذه النهاية… وتولد لدي سؤال: ما مبررات هذه القسوة؟ وكيف تكون اللغة الحكائية قاسية وهي تشكل لحمة النص القصصي؟

*قسوة الكاتب(ة) …قسوة الكتابة :

* حنان درقاوي في سطور(1971)

حنان درقاوي، قاصة وروائية ومترجمة مغربية تقيم في فرنسا. تنشر نصوصا ومقالات في الجرائد والمجلات والمواقع الالكترونية. – صدر لها:

1997 : “طيور بيضاء” مجموعة قصصية عن منشورات دار البوكيلي للنشر والتوزيع بالمغرب.

2003: “تيار هواء” مجموعة قصصية عن منشورات دار الصدى بدبي.

– كما صدرت لها نصوص مترجمة إلى الفرنسية والألمانية.

– صدر لها مع بداية سنة: 2014

” –الخصر والوطن”، رواية عن منشورات دار إفريقيا الشرق بالمغرب.

– “جسر الجميلات” رواية عن منشورات النايا للدراسات والنشر بسوريا.

– الجوائز المحصل عليها:

:1993  جائزة الطلبة الباحثين في الآداب، كلية الآداب بالرباط المغرب عن نص “رحيل، طريق أخر”؛

2001  : جائزة مجلة عائشة بالمغرب عن نص “حبات رمل” ؛

:2003   جائزة الإبداع العربي من دبي – المركز الأول، عن المجموعة القصصية “تيار هواء”

 – الشواهد المحصل عليها:

 – دبلوم الدراسات العليا المعمقة في تاريخ الفلسفة؛

 – دبلوم كلية علوم التربية للأهلية لتدريس الفلسفة؛

 – ليسانس فلسفة، تخصص فلسفة عامة.

من خلال تتبع مسار الكاتبة نتعرف على رؤيتها للوجود وتفاعلها مع الواقع، بحيث انتقلت من مرحلة القفازات البيضاء ذات النزوع الرومنسي (كما تقول)، الى مرحلة تعرية الواقع ونقده بعنف كما ظهر في اعمالها التي كتبتها في المنفى “الاختياري”بفرنسا حيث تعيش الان. وهي كاتبة منخرطة في الحياة الحقوقية والسياسية بشكلها العام. لذا نجدها تقول :

“أعتبر أن المثقف صوت من لا صوت له، وعليه أن يلعب دورا سياسيا وأن يقف بجانب القضايا العادلة إذا توفرت له أدوات التحليل والرغبة في الانخراط في دينامية مجتمعه”.

وهي منشغلة بالكتابة لحد الإدمان حيث تقول :

*”أنا حاليا أكتب عشر ساعات في اليوم، أحس بالتعب و يكون ألذ تعب على الإطلاق”.

لعل القسوة في الكتابة اتية من الذاتي والموضوعي في تشابكهما، ومن صدق التجربة الانسانية…

*حكاية أسماء وأسنانها الصفراء والمنظور السردي :

تقوم قصة “الأسنان الأكثر بياضا” على حكاية محورية هي: رغبة أسماء في تبييض أسنانها الصفراء، والمشاركة في “سباق المدن” لتصبح ممثلة كبيرة.

أسماء المراهقة ذات الأربعة عشر ربيعا تعيش حياة خريفية، ويتولد عن الرغبة الاولى (تبييض الأسنان) مجموعة من الأحداث الفعلية منها: التنسيق مع صويحباتها، العمل على جمع المال للتبييض، اللقاء بعدة أطراف طلبا للمساعدة (التلميذ الفيلسوف/أستاذة الفرنسية…)، الفشل في الحصول على المال واقتراح صديقتها فاطمة سرقة ذهب أمها ورفض أسماء لذلك، معارضة أمها لرغبتها واقترافها لسرقة ذهب أمها ودخولها السجن في النهاية. هذا المسار الأول الواقعي المحفوف بالفقر والمعاناة، يقابله مسار أحداث أخرى متعالية على الواقع، أحداث هي أحلام أسماء بان تصبح ممثلة ونجمة عظيمة، تسكن بمدينة الفنانين (الرباط)، تمتلك سيارة فخمة وتساعد آمها وصديقاتها….جميلة بأسنان بيضاء وملابس غالية وأكل فاخر….

تقدم هذه الأحداث عبر رؤية سردية مزدوجة: بواسطة صوت أسماء باعتبارها ساردة وشخصية أي الرؤية المصاحبة، فالشخصية تحكي الأحداث التي تشارك فيها عبر ضمير المتكلم.

وأما الصوت الثاني الذي يسرد لنا أحداث هذه الحكاية، فهو صوت مجهول غير مشخص، ولا يشارك في الأحداث مستعملا ضمير الغائب، لديه سلطة اكبر من الساردة الأولى: أسماء، لأنه يعرف كثيرا عنها وعن غيرها من الشخصيات.

ولعل اختيار الكاتبة للنوعين معا، يساعدها على توفير أقصى المعلومات الممكنة التي تساعدنا على لملمة الأحداث، وتتبع تبنينها ونموها المتشعب، فنوع الرؤية المصاحبة يحقق اقصى درجات “دمقرطة”الحكي، بحيث نتمكن من سماع صوت أسماء الذاتي، المعبر عن انشغالاتها النفسية، كالإحساس بالدمامة وكرهها لفقر أسرتها وقلقها من توتر علاقتها بأمها، الموروث عن كراهية أمها لأبيها (الذي لا تسميه باسمه وإنما بتسمية قدحية “بوزبال”). 

هذه الرؤية تجعلنا قريبين من روح الشخصية البطلة. أما الرؤية من خلف فإنها تمكننا من التفاصيل المهمة، للتعرف على الشخصيات حين يكون الحكي خارج سلطة الساردة البطلة، رؤية تساعدنا على الغوص في أعماق الشخصيات واكتشاف وعيها الخفي. ولعل هذا التقاطع بين الرؤيتين: المصاحبة ومن خلف يمكن من اغناء النص واستجلاء بنية أحداثه الغنية، فنحن أمام وفرة المعلومات من منظورين داخلي ذاتي:

 منظورالساردة/البطلة التي تلعب دورين متداخلين، أولهما الحكي باعتبارها ساردة تحكي لنا معاناتها وأحلامها الذاتية، وثانيهما الفعل باعتبارها شخصية أساسية وفاعلة في حركية الأحداث وقائمة بأهمها. ودور السارد العارف بكل شيء الذي يكتفي بوظيفة الحكي، لكن من منظور مخالف للأول ومتكامل معه. والأكيد آن التنويع في الرؤية (مصاحبة/من خلف ) بالتناوب يساهم في إبعاد أي رتابة محتملة عند المتلقي.

*عنف الشخصيات …عنف العلاقات :

+الأب: ورد في القصة:” أما أبوها فهو لا يعود إلا بعد منتصف الليل بعد أن يبدد مصروف البيت في الحشيش، كما عرفنا من خلال أحداث القصة، انه يشتغل كعامل نظافة ضمن برنامج الإنعاش الوطني، لجمع قمامة مدينة أيفران، وعرفنا أن أم أسماء (وكلاهما الأب والأم، بلا اسم فما دلالة التغييب والغياب؟) لا تسميه باسمه أو بصفة الأبوة (الا في حالة واحدة حين تهدد ابنتها بعقابه) وإنما بلقب تحتقره به “بوزبال”.

هذا الأب هو رمز للعنف الرمزي، فهو غير مسؤول وغائب عن انشغالات طفلته، ومدمن حشيش، ويعتدي على مصروف البيت (هل تسمي حساء العدس كل يوم أكلا؟). وهو سبب مباشر لكراهية أمها لها: ( ذنب أسماء أنها تشبه أباها في شكله وأمها تحقد على أبيها وتعتبره سبب فقرها واندحارها.). وهذا يولد لدى الطفلة سخطا عنيفا تبلوره في سؤال استنكاري عنيف: (ما الذي يدفع الفقراء إلى الإنجاب غير غريزة حيوانية تتجاوز قدرتهم على التحكم في أعضائهم التناسلية؟).

يبقى الأب متهما في عيني أسماء بأنه عامل معيق لتحقيق حلمها: رغبتها في أن تصبح نجمة تمثيل بأسنان بيضاء.

+الآخرون: نحددهم هنا في:

–  صديقتها التي تقدم لها بيضا في الفطور فيحرك ذلك فيها دونيتها: ( لم تستطع أن ترفض دعوة أم مريم للإفطار فقد هيأت بيضا مقليا وزيتونا” في بيتها البيض المقلي يشكل وجبة غذاء كاملة ومريم تفطر به. يا لحظها”.).

–  دكتور عيادة الأسنان: تقع عيادته في بيت أنيق وهي: (تشعر بالحرج دائما أمام البنايات الأنيقة). وتحس أن الأماكن الأنيقة تشعرها بضحالتها، ورخصها في هذا العالم الذي لا يؤمن إلا بالمال… هي التي تربت في براكة قصدير تحس انه ليس من حقها أن تلج الأماكن الأنيقة… وهذا يتأكد من خلال معاملة سكرتيرة الدكتور لها “قالت: بصوت بارد/بنفس البرود: هنا عيادة وليس محل بقالة.

 – الزايدي استاذة الفرنسية وزوجة الكومسير: رغم أنها تحبها كتلميذة نجيبة في مادتها، إلا أنها تخلت عنها ولم تقدم لها دعما ماديا هي الغنية مالكة بيت أنيق، بحديقة جميلة وأثاث عصري نظيف ومرتب بعناية…حيث تطابق موقف الأستاذة مع موقف الأم :

– لا يمكنني أن أساعدك للأسف باعتبار أن أمك غير موافقة. يجب أن تسمعي لأمك يا أسماء.

–  إنها تحرمني من حلمي وتعوق بيني والحياة .

–  لكنها أمك ولا أحد يعرف مصلحتك أكثر منها. لا يمكنني أن أفعل شيئا.

فأصبحت الأستاذة عاملا معاكسا لرغبة أسماء مما ولد في نفسها أسئلة قلقة :

(ألا تشيد كل يوم بإتقانها للفرنسية وتتنبأ لها بمستقبل ناجح؟ هل كذبت عليها طيلة السنة الدراسية؟ لماذا خذلتها بهذا الشكل؟ لماذا تدعها وحيدة تتخبط في مشكلة لا حل لها؟ أما كان يمكن أن تمدها بالألف درهم بدل المحاضرة عن دور الأم وضرورة طاعتها؟ ألهذا الحد هي رجعية أم أنها لا تريد لتلميذتها الفقيرة أن تحلم بالمجد والشهرة والمال؟).

*التلميذ الفيلسوف: علي مثل أيضا عنصرا معاكسا لرغبة أسماء من منظور ثقافي وفلسفي وسياسي، ولكنها لم تكن قادرة على استيعاب رأيه: ( لا أعرف لماذا تشغلين نفسك بتفصيل كهذا. يجب أن تكون لك إرادة اقتدار حقيقية كما يقول نيتشه، عليك أن تتقبلي نفسك كما أنت وأن تعيشي حياتك بقوة وأن تقاومي أفكارك الغريبة عن الجمال. لك جمالك الخاص ولو بأسنانك الصفراء.).

ولم تقتنع بمرافعته السياسية ” لكني غير موافق على طريقة تفكيرك وعلى مشاركتك في برنامج للتلفزيون المخزني، الذي هو أداة النظام في إلهاء الشعب عن مهامه الثورية.)، بل كانت تبحث عن الف درهم كمهمتها الثورية الوحيدة:” – أرحنا من الفلسفة. هل لديك ألف درهم؟) كما جاء على لسان صديقتها فاطمة. كانت تفكر في المبلغ المطلوب لتبييض أسنانها (ثمن الزيارة ستين درهم والتبييض بألف ومائتي درهم، هل تريدين موعدا؟). كما قالت لها السكرتيرة بصرامة.

*الطالب عزيز: مارس عنفا من نوع خاص حيث قايض مساعدته المادية بالنوم مع فاطمة، (ندمت أسماء لأنها سألته لكنها لم تتوقع أن يكون بتلك الفجاجة.).

*الأم : رمز كبير للعنف بجميع أنواعه… إنها نموذج “المضطهد المضطهد / بفتح الهاء الاولى وكسر الثانية”، فلأنها تعتبر نفسها ضحية زوجها الذي لا تسميه إلا بوزبال، ولأنها تعمل خادمة طيلة اليوم والأسبوع، بمطعم مقابل ما يناهز عشرين درهما في اليوم، فهي تقسو بشكل مضاعف على ابنتها أسماء. ومظاهر هذا العنف اتخذت عدة صور: 

+عنف السخرة: ( خلال العطل الدراسية أبدأ يومي بكنس العشة، وأحضر الطعام لأمي التي تشتغل خادمة بمطعم الوردة في المركز. بعد الظهر أكنس أمام البراكة وأرش الماء…. في بعض الأحيان أشتغل بطرز اليوغوسلافي. عمري أربعة عشر عاما ولا أفق لبنت في مثل عمري لا تملك مالا بمدينة إيفران، لا أفق سوى قضاء العطل بالبيت. حين سأكبر أكثر سألتحق خلال العطل بأمي في مطعم الوردة.). فهي تقوم بأشغال البيت منذ صغرها وحين كبرت (14سنة) أصبحت تساعد أمها في المطعم البعيد عن البيت.

+عنف العلاقة: تعتبر أسماء أمها اكبر حاجز مانع أمام تحقيق أحلامها، وكثيرا ما عبرت عن غرابة قساوة أمها، وبحثت لها عن تفسير بدون أن يقنعها ذلك بشرعية ذلك العنف اللفظي والنفسي والاجتماعي (وضع شكاية لدى الشرطة )، ومنعها من التمثيل وتبيض الأسنان:” تبييض أسنان؟ هل وجدنا الخبز لتهتمي ببياض الأسنان الآن؟” ثم تعنفها:” أهدم جسدي في الخدمة وابنة بوزبال تحلم بالتمثيل والخلاعة. يعني ماشي ممكن أن تكوني معلمة، ممرضة، سكرتيرة وتساعدينا على حمل هاته القربة المثقوبة؟”. وتتجاوز ذلك الى التفكير في منعها من كل ما تحب:” ستفضحينني وستنتهين في السكر والسجائر. أقفلي باب هذا الموضوع وإلا أخبرت أباك وسيتكفل بجلدك. هذه آخرة الذهاب إلى المكتبة. لا مكتبة بعد اليوم وصديقاتك لا أريدهن أن تعتبن البيت بعد اليوم. لاشك أنهن هن اللواتي أشرن عليك هاته الشورى الخليعة. أين تعلمت التمثيل؟ إذا تطلب الأمر سأسحبك من المدرسة وتلتحقين بالعمل في المطعم. إنهم بحاجة إلى خادمة، ابنة الخادمة تصير خادمة وهذا سير الحياة”.

هذه العدوانية القاسية من الام، تجعلنا نطل على العوالم النفسية للبطلة، وهي تتساءل عن دواعي تلك القسوة:” لا تستطيع أن تفهم موقف أمها من حلمها بالتمثيل، واحتقارها لرغبتها في تبييض الأسنان. مرات كثيرة تفكر أن أمها لاتريد لها الخير وأنها تحلم بها خادمة مثلها. ما الذي يجعل أما عدوة لابنتها بذلك الشكل؟ في الطبيعة هناك قطط تأكل أولادها، هل تكون أمها مثل تلك القطط القاتلات؟”.

عدوانية تولد عدوانية في محيط معادي للحلم حتى وان كان صغيرا جدا..

إن أسماء كبطلة تبحث عن حلم جميل في واقع متدهور لا يعترف بالأحلام، يدفعها حبها للتمثيل الى رغبة التفكير في تبييض أسنانها للمشاركة في سباق المدن، لكنها رغبة تعارضها عدة عوامل ابتداء من المال ووصولا إلى الأم، مرورا بعجز الآخرين عن مساعدتها (الأب/الصديقات /التلميذ/الطالب/الاستاذة…)، مما يرجح الانفصال عن الموضوع اكثر من الاتصال به.

إن شبكة العلاقات التي تبنيها الكاتبة حول البطلة أسماء، ترسم مجموعة من العلاقات المعادية، مما يِؤزم مسار الأحداث ويبني نهاية مأساوية: الدخول للسجن والتوقف عن الدراسة والالتحاق بأمها كخادمة بالمطعم، وان كانت فازت بأمر واحد هو: تبييض الأسنان… هذا الحلم الذي كان مفتاحا سحريا للمستقبل (النجومية والتمثيل) لم يعد سوى علامة على ذكرى الاعتقال وتوقف الأحلام.

*عدوانية الاماكن :

تدور أحداث قصة حنان الدرقاوي في أماكن متعددة، أهمها مدينة ايفران كحيز مكاني عام، مع الإشارة الى فاس والرباط.

+ايفران: يقدم هذا المكان بمظهرين متناقضين، فهي تلقب بسوسرا المغرب لجمالها ونظافتها. وتحظى بلقب المدينة الأنيقة مدينة الحسن الثاني. وهي في الوقت نفسه وجه مخفي خلف جبل تيمديقين حيث تقبع البراريك والبؤس والفقر. وأسماء تنتمي الى عالم تيمديقين عالم البيوت الواطئة والبراريك القصديرية. تحس أسماء أنها غير موجودة أو مرئية حين تسير في ايفران الأنيقة:” الفقراء مثلها محجوبون عن الأنظار في المدينة ولا أحد يراهم حتى أنها تحس في بعض الأحيان أنها بنت خفية”. ايفران الحسن الثاني مدينة البنايات الأنيقة التي تشعر أسماء دائما بالحرج: ( تحس أنه ليس من حقها أن تلجها وهي التي تربت وكبرت في براكة قصدير). لا تحس أسماء بالانتماء لهذا الجزء من المدينة. في حين تجد نفسها متورطة في الانتماء الى ايفران الفقيرة المخفية عن الحسن الثاني والسياح. واهم مكان يجسدها هو بيت أسرة أسماء .

+بيت بوزبال: يقدم هذا المكان بأوصاف متنوعة تحدد هويته الاجتماعية /الطبقية: فهو بيت من قصدير، عبارة عن براكة في حديقة بيت كبير، وهو مجرد عشة و مخروبة.

هذا المعجم القاسي يصور لنا المكان الذي تعيش داخله أسماء، وعلى عكس ما نظر له يوري لوتمان، فان هذا البيت لا يدل على الحميمية والأمان، في مقابل الغابة الدالة على المعاداة والخطر، بل يصبح مكانا مغلقا معاديا وخطيرا، لانه مخترق بالفقر القابع في غابة ايفران الفقيرة. شكل هذا البناء الذي تسكنه مع أسرتها هو ابعد عن البيت الذي تحلم به: “كانت تتخيل حياتها في بيت حقيقي، بيت بجدران حقيقية بدل القصدير الهش، الذي يشعرها انها تبيت في العراء”. هذا المكان ليس بيتا لانه امتداد للخارج /الغابة (العراء خطر)، ليس بيتا لأنه بلا دولاب، ويسكنه الجوع والبرد والفقر (تشقق اليدين/وجبة واحدة أحيانا في اليوم/شربة العدس المزمنة/ملابس رخيصة من الجوطية).

إن مدينة ايفران غابة كبيرة بالنسبة لأسماء، داخلها تحدث وقائع خطيرة تهدد أحلامها، ولا احد يساعدها على تحقيق حلمها (باستثناء صويحباتها)، وحتى البيت العائلي الذي من المفروض ان يوفر لها قليلا من الأمان، يتم اكتساحه من طرف الغابة، لان الحد الفاصل بينهما حطمته التفاوتات الاجتماعية الصارخة والفقر العنيف.

*الزمن وتقنية الاستباق: قدر الحلم بطعم العنف…

أحداث النص كما اشرنا الى ذلك سالفا تقوم على حكايتين متداخلتين، جذرهما الموحد هو التجربة الحياتية لأسماء: حكاية الأحداث اليومية لأسماء الطفلة / التلميذة ومعاناتها مع الفقر واصفرار أسنانها وعملها على توفير ثمن التبييض. وزمن هذه الحكاية يتأرجح بين :

+الراهن من خلال استعمال أفعال المضارعة لترهين مشاهد من الحياة (والكاتبة تصرح في احد حواراتها بأنها تهتم باللقطة/المشهد في كتابتها): ” أخاف من الخشبة ومن حلمي لأنني فقيرة ولست فتاة جميلة، أنا أقرب للدمامة، نحيفة وأسناني صفراء وليس لي شكل مميز. البعض يقولون أن عيوني جميلة وأن شعري المنسدل هو سر جمالي. أود أن أصدقهم لولا هاته الصفرة في أسناني”.

+الاسترجاع: من خلال استعمال أفعال الماضي الدال على انتهاء الاحداث: ( قبل شهور سمعت بمسابقة “سباق المدن”/ لبسن ملابسهن بسرعة وانصرفن في اتجاه المركز. كانت أسماء تداعب حلم الأسنان/ دلفت مع صديقاتها إلى داخل المنزل وتبعن الإشارة ” طبيب أسنان” إلى درج كبير. صعدن، وفي الطابق الأول تراءى لها باب الطبيب…)…والأمثلة كثيرة في النص.

والحكاية الثانية هي حكاية أسماء النجمة الممثلة ذات الأسنان البيضاء ،الغنية والتي تسكن بالرباط وتمتلك الفيلا والسيارة الفاخرة وتغزو شاشات التلفزة. وتقدم أحداث هذه الحكاية الثانية بواسطة تقنية الاستباق التي يسميها “تودوروف”ب(حبكة القدر/عقدة القدر المكتوب)، إنها تقنية توظفها القاصة لبناء أحلام البطلة أسماء. أحداثها في حكم المفترض المجهول والمتوقع حدوثه، زمنها المستقبل الذي لم يحل بعد، زمن يتقابل مع زمن الحاضر/الماضي المرفوضان في وعي البطلة. الاسترجاع وسيلة لبناء قدر تختاره أسماء، لكنه قدر غير مكتوب سوى في عقل تلك الفتاة الحالمة… قدر غير مقدس لان زمن الحاضر يسعى الى محوه، يساعده في ذلك زمن الماضي بدعم لوجستيكي، لا مشروط من طرف الفقر وكل القوى المعاكسة لرغبة أسماء.

إن توظيف الاستباق فعال في رسم شبكة الأحداث، خاصة انه لا يوظف إلا في اشتباك بارع مع الترهين والاسترجاع، مما يشوش على أفق انتظار المتلقي، وجعله يجدد توقعاته منتظرا حلا أو انفراجا لصالح الفتاة الفقيرة الحالمة، والتي تنال الكثير من التعاطف مع تطور الأحداث…. لتأتي النهاية قاسية وصادمة: ارتكاب أسماء للسرقة (التي نهت عنها سابفا صديقتها)… دخولها السجن…. توقفها عن الدراسة و عملها خادمة مع امها في مطعم الوردة…. (واية وردة؟؟؟).

*خروج من حياة أسماء :

– أسماء: “اسم علم مؤنث عربي، هو جمع كلمة “اسم” وهمزته همزة قطع، في حين أن همزة مفرده همزة وصل. والاسم، هو اللفظ الموضوع على الشيء مادياً كان أو معنوياً، ويُعرف به، وقد سمى العرب بناتهم منذ الجاهلية بأسماء جمعاً، ولم يسموا بمفرده. وربما قصدوا به معنى السموّ. والعامة تسقط الهمزة المتطرفة فيقولون: أسما.”

– هل ستستسلم أسماء لحياة الخادمة وتتوقف عن الحلم ؟؟؟؟؟

الأستاذ عبد الجليل لعميري – المغرب

2 التعليقات

  1. إبراهيم يوسف

    الأخ الصديق عبد الجليل لعميري

    الأجدى أن نستمع إلى الحوار بين الملك والشحاد وأحلامنا تتوهّجُ بالأماني. هكذا أتمنى أن تصغي بعناية للمقتطَف على رابط المرفق الأول، من مسرحية هالة والملك للأخوين رحباني، ففيها ما يضيء بكفاءة على قصة الاسنان الاكثر بياضا. الرحابنة وفيروز ونصري شمس الدِّين ووديع الصافي الثروة والملجأ، وبعض الخلاص من الفقر والجوع والأحزان والحرب على كل الجبهات.

    https://www.youtube.com/watch?v=Pj4E5beUvFk
    https://www.youtube.com/watch?v=R5nsS-hOvko

    أما قصة الاسنان الأكثر بياضا؟ لحنان درقاوي فومضات ضوء متواصلة، تكتم الأنفاس وتثير الدهشة لشدة عفويتها وشفافيتها، فلا تقل عن كاميرا بمواصفات متناهية الدقة والاحتراف، ترصد الموقف وتلاحقه وتصوره من مختلف الجهات؛ فالكاتبة تتمتع بجدارة عالية تستحق أن تتناولها بهذه الدراسة المحيطة الوافية. ويتراءى لي أنها تقمّصت.. أو عاشت تفاصيل الحكاية.

    لذلك فمن العيب يا صاحبي، أن لا أصف الحكاية بالإبداع بالمعنى الحقيقي.؟! حينما تمكنت الكاتبة من تحويل الأنظار إلى مسألة (بسيطة) في اعتقاد الآخرين، لتجعل من تبييض الأسنان قضية بهذا الحجم. وما هذه القراءة الواعية المنصفة..؟ إلا شهادة عادلة بالحق على إبداع الكاتبة والحكاية.

    وأشهد على نفسي بمرارة، حينما تمنَّت علي ابنتي ذات يوم..؟ أن أشتري لها “غيتارا”، وكانت في سن أسماء أو أصغر قليلا، فخيبت ظنها ولم أفعل..؟ لا لسبب يستحق..! غير التّراخي وعدم الإرادة الطيبة أمام مشقة التفتيش عن الآلة المناسبة، والأستاذ المعلم دون أي اعتبار آخر.

    ولا زلت نادما على تقصيري معها.. لكنني آليت على نفسي أن ألبي كل رغبات ابنتيها.
    في الختام باقة زهر بكل ألوان الطّيف للكاتبة المبدعة حنان درقاوي.. تمنيتُها لو كانت باقة زهر طبيعية.

    الرد
  2. عبدالجليل لعميري

    الاستاذ الكريم إبراهيم يوسف محبتي وتقديري. ..أنت المتلقي الفاعل /المتفاعل مع كتابات الآخرين. ..أنت هو القارئ الذي تحدثت عنه نظرية التلقي و وصفته بالقاريء المبدع الذي يمنح النص حياة جديدة وإمكانيات وجود غير متوقعة. .بل منفلتة …حين يمتد النص في حياتنا ونبحث عنه في حيوات أخرى يضمن وجوده المتجدد…محبتي وتقديري أستاذي وتحية للأستاذة حنان التي منحتنا نصا اثار اهتمامنا كقراء متفاعلين ومشاغبين. ..

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.