من الحقد الأعمى إلى السقوط الداوي

بواسطة | 10 سبتمبر 2018 | قصص قصيرة | 1 تعليق

امرأة محدودة الجمال، نرجسية الطبع، ارستقراطية الطابع، قوقازية الأصل، والدها الجواهرجي الثري الذي أمَّن لها حياة رغيدة بمظاهر رفاهية غير محدودة، بل على أوسع نطاق، ليعوضها هي وإخوتها عن حياة المعاناة التي عاشها مع أسرته المهاجرة من القوقاز إلى شرق الأردن في نهايات القرن التاسع عشر، هرباً من بطش الروس وحفظاً لدينهم الإسلام، ولذلك كان كريما ومعطاءً مع أبنائه. رهن بهم حلم حياته، ولم يمنع عنهم ما حرم منه في زمانه، فعلمهم في أفضل المدراس، ومن ثم بعثهم إلى أكبر وأشهر جامعات العالم، ليحصلوا على أفضل فرص التعليم، وأغدق عليهم ما يملأ أحلامهم، فكان سخيا لأبعد الحدود، ولم يقدِّر المخاطر التي سيتعرض لها أبناؤه داخل مجتمعات الغرب، فقد وثق بأنه وزوجته المثقفة أحسنا تربيتهم وفق المبادئ والقيم المتبعة. كان حقا انفتاحياً في حدود المظاهر، لكنه لم يكن ليتهاون بالمبادئ الرئيسة المتعارف عليها بين الشركس، فكان يرسل كل واحد من أبنائه إلى دولة تتميز بتعليم المادة المنتخبة لهم، وما خيبوا ظنه بهم أبداً.

نشأت أمينة صغرى إخوتها وسط مجتمع عربي يمنع عن الأنثى كل شيء تقريبا، ويستهجن حريتها المطلقة، لكن العقلية الشركسية بطبيعتها القوقازية، كانت تمنح بحكم عاداتها وتقاليدها مجالا رحباً لنشأة مشاعر الحب بين الشاب والفتاة، لينتهي الحال بالخطف على سياق عاداتهم في الزواج، إذ تخطف الفتاة حسب أصول معمول بها منذ آلاف السنين، حيث يضع الشاب فتاته عند عائلة مشهود لها بالقدر الاجتماعي الطيب، ومن ثم يتمم الزواج حسب التقليد الاسلامي مع رب هذه الأسرة، أو بالطريقة الأخرى من خلال تولد مشاعر الحب بين الشاب والفتاة المنتهي بطلب اليد من والدها والخطبة فالزواج على طريقة العرب إذا كان الشاب عربيا.

لكن أمينة وقد وجدت أبا حانياً يشرع لها ولإخوتها أبواب فرص طلب العلم في أفضل جامعات العالم، حيث التدريس الجامعي لم يكن متاحا كثيرا في بلدهم آنذاك، وكان يأمل أن يتميز أبناؤه بما يليق علمياً، ليحصلوا في بلدهم على أفضل المراكز في العمل، كان يأمل بذلك مع وجود الدعم المتمثل بشقيقه الضابط الكبير برتبة لواء في الديوان الملكي، فييسر عليهم بقية المهمة، وما فرَّق الأب أبداً بين الإبن والإبنة، فقد حصل كلاهما على أفضل الفرص لطلب العلم الأكاديمي العالي، في ذلك الوقت المبكر من بدايات تفشي الوعي الحضاري الحديث، رغم البطء الذي كان عليه وندرة حدوثه الموحي بحالة من التروي عند الآباء من قبيل أخذ الحيطة والحذر، كان ذلك في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، حينما كانت المرأة لا زالت تتهيأ على خجل لنيل دورها في الحصول على مراتب العلم. أما العمل فقد اقتصر على التعليم، وقلة نادرة منهن دخلن في تخصص الطب، في وقت كان يُنظر فيه نحو الدراسة المختلطة بحذر شديد لخصوصية طبيعة الفتيات.

وانتقلت أمينة صاحبة الشخصية الثائرة المتمردة، على فصول التخلف العربي، برفقة والدها إلى مدينة الأحلام والرومانسية والجمال (فيينا) في العام 1957م، والأحلام تصارع بعضها داخل رأس أمينة الصغير المستشعر رهبة التغيير، والاختلاف الثقافي بين مجتمع النمسا الغربي المتحرر والمجتمع العربي المحافظ مما ترى أنه سيشكل لها جدارا ذاتيا تأمل تخطيه، تتشبث بساعد والدها وعيناها تحصدان المكان، تستكشفان كل صغيرة وكبيرة، فتبهرها المرئيات وتفرحها أنماط ممارساتهم للحياة، فقد وجدتها مثيرة حد الشغف، فاتخذت قرارها مع ذاتها؛ أن تكون بالقوة التي تجعلها تذوب الهوينا بثقافة أهل الغرب الأكثر تحضراً، وكلمات ملكة الطرب العربي أسمهان تترد في داخلها، وكأنها تتهادى إلى مسامعها عبر آفاق السماء، وتعرجات صوتها الحاني تزلزل كيانها، فتشعرها بالانتشاء.

ليالي الأنس في فيينا، نسيمها من هوا الجنة

نغم في الجوِّ له رنة، سمعها الطير بكى وغنى

دي فيينا روضة من الجنة

يا سلام كم هي محظوظة أن تعيش في جنة فيينا، وتخطو على أديمها.. فكم سيحسدها على ذلك بنو جلدتها؟ هكذا كانت تحدث ذاتها المبتهجة بما تحصل عليه متفردة.

استأجر والدها شقة صغيرة تأويها إلى حين يفتتح سكن الطلاب أبواب الانتساب لإقامة الطالبات، وتشاركت السكن مع جولي فتاة أجنبية شغوفة ومتحررة، ألهبت عقل أمينة وأفكارها بروعة متعة الجسد وجمال تكوينه الأنثوي، ورَغَبتَّها بنيل المتعة مع فتيات مثلها، فتأمن ألا تتعرض للحمل والولادة والفضائح المتفجرة، ونالت الفكرة رواجاً في ذهن أمينة وسرعان ما ساقتها هذه الشريكة لممارسة السحاق للوصول لذروة المتعة، ومن هنا عبرت أمينة عالم الشذوذ والإنحراف غير العادي من أوسع أبوابه، وتضلّعت بسقياه حتى الثمالة.

نالت شهادة البكالوريوس في الطب النفسي عام 1961م، وعادت إلى الأردن تحمل أدوات كفاءتها العلمية، وقدماها تتقافزان على أنغام رقصة الفوز، ليستقبلها أهلها بالفرح الغامر، وقد لاحظوا أن ابنتهم أصبحت سيدة ناضجة تليق بأفضل الوظائف الرسمية، فتحدثوا إليها صراحة عن فرصة الاقتران بإبن عمها من العرين الشركسي لتكتمل فرحتهم بها، أنِفَت نفسها فكرة الاقتران بابن عم لا تحبه ولا تحتمل طبعه، فرفضت العرض جملة وتفصيلا، وتيقظت حينها حواسها لذلك الحنين المتدثر باللهفة، وقد أستعاد ذهنها صورة بسام حبيبها العربي الفلسطيني الوسيم، والشوق إلى لقياه يشدها من تلابيبها.

وبحثت عنه بين خبايا العاصمة الناشئة الصغيرة المتمددة ببطء، وكانا قد ارتبطا بقصة حب عذرية خلال المرحلة الثانوية، وافترقا على خصام شديد قبل سفرها للدراسة، لأنها آثرت السفر مرجئة بذلك مشروع الزواج حتى تستكمل دراستها الجامعية في الشمال الأوروبي، فاتهمها بسام بالأنانية والمراوغة وعدم الانضباط العاطفي، وأن ثراءها أمام فقره يجعلها متعجرفة لا تحترم مشاعره، لكنها لم تلقِ بالاً لاتهاماته، كانت موقنة مع نفسها أن كلماته لا تشي عما بداخله، وما تلفظ بهذه العبارات إلا ليحول بينها وبين الارتقاء بالتعليم، خاصة أنه لن يتمكن من مجاراتها بالتعلم أمام فقر أهله وانتظارهم تخرجه وحصولة على فرصة العمل وتحسين مستوى دخلهم!

اكتشافها ما لم تتوقعه رغم غيابها لأربع سنوات؛ وانقطاع تواصلهما تماما، أصابها بصدمة قوية، فترنحت لها قامتها ودارت في موقعها حول نفسها جريحة وروحها تئن وجعاً، فقد انتهى خصامهما آنذاك على وعد المحاولة لانتظارها، لكنها وجدته اليوم قد صرفها نهائياً من صفحات حياته، وقلب على علاقتهما الغلاف الأخير، وارتبط بفتاة أخرى، تزوجها وأنجب منها الأبناء، فغام عقلها وحُرقة الغيظ تفتت داخلها، وأصابها الاكتئاب، فمن ذا الذي يرفضها وهي الشركسية الثرية خريجة جامعية في الطب النفسي من فيينا، مدينة تتغنى بجمالها أقلام المبدعين، وتتمناها أفئدة كل الشباب. يا للهول كم كانت ستتنازل عن مستوى ما تعيشه في بيت ذويها مقابل زواجها من هذا الخائن، وأي معركة كانت ستخوضها مع أهلها لتتزوج عربياً؟

وهي تتلظى بلسعات نارية مؤلمة؛ تمنت لحظتها لو تستطيع الانتقام منه لنفسها، وفكرت للحظة الذهاب إلى زوجته وتأليبها عليه لهدف تدمير حياته، لكنها أمام الحزن الذي اعتراها، وانكسار شموخها، وسهومها الدائم الحزين، قررت العودة إلى النمسا، تحت حجة تكملة دراسة الدكتوراة بذات التخصص، وهي عازمة بينها وبين نفسها، على عدم العودة إلى موطن ذكرى بسام، وتمكنت من اقناع والدها بفكرة الحصول على الدكتوراة فرضخ هو الآخر لرغبتها.

وعادت أمينة إلى النمسا تحمل في صدرها ظلامية دامسة لكراهية مقيتة، وقلباً مسحوقاً، وروحاً شريرة تعبث بعقلها وضميرها، وجسداً أدمن الشذوذ وحياة المجون والعبث الصاخب، وسط هذا الضجيج الذي ملأ نفسها وأطفأ تماما حركة ضميرها، أصبحت غير قادرة على الاستيعاب بالقدر الجيد، وتراجعت بالتحصيل العلمي إلى درجة الفشل.

في تلك الأثناء تعرفت أمينة على الفتاة اليهودية سارة واتخذتها صديقة مقربة تشاركها الفراش، وحدث أن تعرفت أمينة خلال زيارة لمنزل ذوي سارة على شقيقها الأكبر موشيه، شاب ممشوق الطول، وسيم الطلعة، يمتلك شخصية مغناطيسية مثيرة، يحسن مخاطبة الفتيات، يعمل طياراً في سلاح الجو النمساوي، ومع تكرار اللقاءات نشأت بينهما مشاعر جياشة وأحاسيس متدفقة، وجدت نفسها مشدودة إليه، بل مسحورة به، واقعة في حبائل حبه، لا تملك له رد طلب، وهكذا استجابت لمشاعره تجاهها، وسرعان ما انصاعت له، وأبدت تجاوباً سحرياً للمساته وقبلاته، وبدون تفكير أو مراجعة ذاتية أسلمت له جسدها طائعة، مستجيبة بانسجام غريب لسحر لمساته، وأنغام همساته المخدرة، وتركته لينال وطره منها، ويفضّ غشاء طهارتها، ورغم ذلك لم تهب ولم ترتدع، بل استسلمت لتكرار مضاجعاته لها حين اعترف لها أنه يريدها بقوة زوجة حقيقية له، وتعدد اللقاء المحموم، فما عادت تهتم بأي نتيجة يمكن أن تجر وبالها عليها.

وفي غمرة تعاظم مشاعرها تجاهه، وتدفق خلجات قلبها، وافقت بكل بساطة التخلي عن ديانتها الإسلامية دون أي مراجعة لعقلها وضميرها ، ودون اتخاذ حساب لأي اعتبارات أخرى، ولا حتى لرد فعل أهلها وقوة صدمتهم بما ترتكب، محطمة بذلك عماد الأصالة في تقاليد نشأتها، فداست بقدم جنونها وعدم انضباطها على كل موروثات ثقافتها الجميلة الناصعة، وأمام فشلها بالحصول على الدكتوراة، وضغوط أهلها باستعجال عودتها إلى وطنها، وخوفها من مواجهتهم بالحقيقة، تطوع موشيه لمساعدتها بالحصول على شهادة دكتوراة مزورة تسكت اعتراضات أهلها، ونجح فعلياً بتحقيق ذلك.

عادت أدراجها إلى وطنها عام 1966م محملة بعارها وثقل عيارها، وشهادات مزورة تشي بحقيقة غشها وزيفها وتردي ضميرها الذي ما عاد يمارس حساباته عليها، وحدها من كانت تحس بدنس جسدها ولوثة الحرام داخلها، فتتصاغر حد التقزم داخل نفسها، مستشعرة تلوث ثوبها وترديها بالحضيض، فتتدارى خوفاً عن العيون، وترتبك الكلمات على لسانها، لكن أمام موت احساسها لم تكن تهتم بالحال الذي باتت عليه، وراحت تمارس تمثيل فصول مسرحيتها بالكذبة المستمرة دون هوادة، وحدها والدتها كان تشعر بالغرابة في تصرفات ابنتها، إلا أنها أرجعت الأمر لارتباكها أمام الإجراءات الرسمية في معادلة الشهادات.

وحسب رغبة الأب انهمكت في إعداد اجراءات ومعاملات افتتاح مشفى نفسي متخصص تديره بنفسها، سيكون الأول على نطاق الوطن، وهذا ما كان يسعد والدها ويرصد له المال والجهد لكي يحققه، وأدركت حينها أنه بات عليها استخدام الشهادات في المعاملات الرسمية للحصول على الترخيص، وحدث ما كانت تخشاه حينما اعترض وكيل الوزارة المختص على عدم وضوح تصديقات الجامعة على شهادتها وعلى هذا رفض منحها الترخيص، فشكته ووالدها إلى وزير الصحة شخصياً، فأمر الوزير على الفور بتشكيل لجنة للتحقيق بالأمر، واكتشفت اللجنة أن هناك تشكيكاً مبرراً في تصديقات شهاداتها التي اختلفت مع تصديقات سابقة عرفوها، وعليها العودة إلى فيينا لإعادة التصديقات، هنا وقد بات انكشاف أمرها وشيكاً، اتخذت قرار السفر بلا عودة، فشهاداتها المزورة لن تحظى بالتصديق بطبيعة الحال من الجامعة هناك، وستسقط الغلالة عنها لتكشف حقيقتها.

وعادت قافلة أدراجها باتجاه فيينا متخمة بذاتيتها، غير عابئة بأحد من أهلها، ولا راحمة قلب والدها الشغوف لحصد النتائج المشرفة، التي انتظرها طويلاً وهو يضع كامل ثقته بإبنته، وكل ما كان يهمها في حينه بطبيعة الحال، أن تتوارى فعلياً عن العيون، وتنأى بنفسها عن أيدي أهلها قبل انكشاف أمرها، فتبتعد إلى أقصى مكان من هذا العالم، فحين غادرت العاصمة عمان كانت مدركة تماما في يقين ذاتها أنها لن تعود أبداً لها، وأنها باتت بلا أهل ولا عزوة ولا انتماء، وأنه يترتب عليها الاختفاء تماماً بطريقة جهنمية لتلد منها إنسانة جديدة، بهوية وإسم جديدين، وراح عقلها  القاصر يرسم الخطط الجهنمية لقابل الأيام، لترى نفسها بصورة ما تأمل من أمان، وداخلها يتعظم بالكراهية تجاه كل من أساءوا لها وعلى رأس القائمة حبيبها الأول بسام، محملة اياه النتيجة التي وصلت إليها، فلو أنه انتظرها لكانا زوجين ينعمان بالحياة ويتحوطهما الأبناء.

ارتمت من جديد في أحضان حبيبها اليهودي الطيار، وأسرت إليه رغبتها باعتناق الديانة اليهودية، فطار لها طرباً، وصحبها إلى كنيس شيمودت اليهودي حيث أعلنت يهوديتها بشكل رسمي عام 1967م، في أعقاب هزيمة جيوش العرب أمام جيش اليهود المحتل، وما منعها ذلك من ابداء شماتتها بهم وبالفلسطينيين بصفة خاصة.

فيما كانا يعبران هي وموشيه جنبا إلى جنب جسراً خشبياً تغطية طبقة خفيفة من الثلوج استوقفها موشيه وعيناه تتوقدان لمعاناً، ووقف قبالتها وملامح وجهة تبث الحب والوله، واضعا يديه حول خصرها، سائلا إياها قبول الزواج منه، فرقص لذلك قلبها طرباً، ومنحته الموافقة وهي تعانقه فرِحة مُهللة، وهي تشترط عليه الهجرة بعد الزواج إلى تل أبيب.

كانت تريد أن تنأى بنفسها قدر ما تستطيع عن أيدي أهلها وعيون مخابرات بلدها، فعمها الضابط الكبير يمتلك سلطة تمكنه من تحريك كامل جهاز المخابرات في أعقابها، كانت تسير في الطرقات حين الاضطرار، وعيناها تتلفتان كل صوب، وهواجس الخوف تطاردها كما الأشباح، وكلما رمق أحدهم بنظرة عفوية بيتها اعتراها الخوف أن يكون عيناً لأهلها أو لمخابرات وطنها.

وفي ذات معبد شيمودت تزوجا رسمياً، وفق المراسم اليهودية، وغيرت إسمها إلى آني موشيه بيراد انتساباً لإسم زوجها، وبذلك أمنت الجزء الأول من حالة التمويه، وهي تحسب نفسها بذلك باتت غير مرئية.

كان موشيه وهو الطيار متخوفاً من الهجرة إلى اسرائيل، وهذا البلد في حالة حرب دائم مع العرب أصحاب الأرض، وسيضطر أن يلتحق بالطيران الحربي هناك ويتعرض للمخاطر، كان يمني النفس العمل بإحدى شركات الطيران المدني في أي دولة يتفقان الهجرة إليها غير اسرائيل، وأمام إصرارها وتحايلها عليه رضخ للفكرة وقدم أوراق طلب الهجرة إلى السفارة الاسرائيلية، وحظيا بالموافقة في نوفمبر 1972م، وطارا بطائرة العال باتجاه فلسطين المحتلة، وقلب أمينة يضرب طبول النصر بكل أشكال الفرح، تنفست الصعداء، واسترخت في مقعدها مكتفية بما حصلت عليه من بشائر النعيم، ثم مالت على زوجها، عانقته بكل حب وهي تشكر الله على وجوده بجانبها، وأسلمت جفنيها للنوم على كتفه، فها هي الآن نجحت بقطع كل الأيادي من الوصول إليها.

وفي مطار اللد الدولي حظيا باستقبال أكثر من رائع، واستقبلهما ضابط على مستوى رسمي، قدم لهما كافة التسهيلات لإنهاء معاملاتهما، وصحبهما إلى المنزل الخشبي ذي الطراز الإنجليزي الجميل المطل على الأحراج الذي تم تهيئته لهما في ريشون لتسيون الأنيقة، وبدا لموشيه أن هذا الاهتمام موجه لزوجته، كونها الأردنية المسلمة التي سيحدث أمر تحولها للديانة اليهودية وزواجها من يهودي وهجرتها لاسرائيل، دعاية ايجابية بين اليهود الأوروبيين المتخوفين من الهجرة لاسرائيل، عدا عن رغبتهم استغلالها في مهمات جاسوسية إنما على تحفظ شديد، فما غاب عن المخابرات الاسرائيلية أن كل ما قامت به أمينة حتى لحظة وصولها دولة اسرائيل ليس إلا لعبة مخابراتية موجهة، وبناءً عليه منحهما الضابط وقتاً للراحة قبل طلبهما لمكتب التحقيق الاعتيادي لاستكمال ملفهما الوطني حسب الاجراءات المتبعة.

بدت نظراتها كمكنسة الكهرباء تلتقط أدق الأشياء وتخزنها، فقد تيقظ فضولها بكامل لياقته للتعرف على المكان الذي سيصبح قلعتها الحصينة، كما بدت كطفل وضع لمرته الأولى وسط حوض مليء بالألعاب المثيرة، معجبة بكل نظام يقابلها، وبنمط العيش شديد الشبه بالنمسا، أسواقها ، أحياؤها الحديثة المتراصة البناء، حدائقها المنسقة الأنيقة، نظافة شوارعها والتزام الجميع بأنظمة المرور فيها، كانت مشدوهة بكل شيء، مذهولة بكل ما يسقط عليه نظرها، وكأنها ليست تلك الفتاة المخملية الآتية من القصور، ولا تلك الفتاة المدللة التي أرسلها ذووها لتنال تعليمها في أغلى دول العالم وأرقى جامعاتها، قياساً بمن لا يستطيع تأمين عُشر ما نالته هي لأبنائهم.. لعلها في حقيقة الأمر كانت تبدي فرحها بما توفر لها من حياة، وقد ظنت نفسها مشروعا للموت القريب، ستغتالها مناقير الغربان، وبأنها لن تحظى حتى بتابوت للموتى يجمع أشلاءها.. فقد بالغت بارتكاب الكثير من المحرمات وباتت مستهدفة للقتل غسلاً للعار.

بعد أيام؛ استدعتها المخابرات العامة الموساد لتوجه لها بعض الأسئلة، وتجمع منها بعض المعلومات عن نفسها، وعن طريقة معرفتها بموشيه، وكيفية تنامي علاقتهما، وسبب تحولها لاعتناق اليهودية، ومن ثم أسباب موافقتها على الزواج من موشيه، وما موقف أهلها في الأردن تجاه جملة أفعالها، لتكتشف بعد مدة أن المخابرت كانت تعرف عنها كل شيء مسبقاً، وأنها جمعت كافة معلوماتها قبل الموافقة على طلب هجرتها لاسرائيل، كما تم سؤالها عن معلومات تتعلق بالأردن والأماكن الرسمية والعسكرية المهمة فيها، ومشاعرها نحوها، وعن منظمة التحرير، والفلسطينيون في الأردن، وما يمثلونه في تفكيرها وضميرها، فأبدت كراهيتها لهم، وعتبها على ملك الأردن أنه لم يقتل كل الفلسطينيين ويتخلص منهم في عملية أيلول، فهم ارهابيون يكرهون الأقلية الشركسية، ويتهمونهم بالمرتزقة، وأنهم وجهوا أذيتهم لأهلها وعمها بصفة خاصة، ظناً منهم وهو اللواء في البلاط الملكي أنه كان وراء مذابح أيلول عام 1971م وأحد مرتكبيها.. وأبدت رغبتها متطوعة أن تقدم كل مساعدة ممكنة للمخابرات الاسرائيلية لينالوا منهم، ومنحتهم كل ما تعرفه عن الأردن، ومواقع عمل عمها والأشخاص الذين كانوا يترددون على منزله ومنزل أهلها.

تبين ضباط المخابرات فعلا من توافق المعلومات التي منحتهم إياها أمينة المتهورة، أو آني المتهودة؛ مع ما تم جمعه عنها وعن الظروف التي حاصرتها ودفعتها لأحضان موشيه، وأبدوا امتنانهم لموقفها من القضية اليهودية ومن مشاعرها نحو اليهود عموماً، ورحبوا بها مواطنة يهودية لها نفس حقوق اليهود، ومنحوها وعدا أنهم معنيون بتوفير فرصة عمل لها ولزوجها في أقرب وقت ممكن.

ولم يكن الزمن ليمهل آني أو لينصف من لم تنصف والديها وقومها، ولم تحفظ عليها دينهاـ فلم يكد موشيه يمارس عمله كطيار عسكري كما تم توظيفه، حتى انتدب في عملية عسكرية فوق سوريا، وليتخيَّر صاروخ سكودا سوري طائرته، ليُصيبها إصابة مباشرة، ويُسقطها من علٍ فتتحطم فوق الأراضي السورية، ولم يَصدر عن الجهات السورية ما يؤكد مصير الطيار، فظل مصيره مجهولاً وحاول مسؤول الدفاع شرح الأمر لها بالتفاصيل الميكانيكية الفنية الممكن حدوثها، فكان الخبر لشدة قسوته عليها مزلزلا، أربك البقية الباقية من توازن عقلها، وراحت تؤنب نفسها، وتلومها، وتحملها مسؤولية موته، لأن موشيه كان نبهها بمخاوفه تلك، ولم تضعها أبداً بالإعتبار، لأنها كانت أنانية تماما كما وصفها حبيبها الأول بسام، كان كل همها أن تأمن أجواء عيشها بعيداً عن مخاطر انتقام أهلها، أو أن تصلها سلطة عمها.

وقفزت لرأسها المضطرب؛ ونفسها المحطمة والمفجوعة، فكرة الانتقام من العرب ومن الفلسطينيين بصفة خاصة، لأن حبيبها الأول الذي تخلى عنها واحد منهم، والعرب هم من أرهقوها بالخوف والانكسار في الأردن والنمسا واسرائيل، ورغم أن الجهة العسكرية وفرت لها دخلاً شهرياً تعتاش عليه، وساعدتها بالحصول على ارث من زوجها يربو على النصف مليون دولار، إلا أن الحقد الذي ملأها؛ بدأ فورانه يغلي داخلها، وكل ما رغبته في تلك اللحظة فقط الانتقام ولا شيء سواه، وشعرت أنها مستعدة لكل المخاطر في سبيل الانتقام، كانت غارقة في اليأس حد الترنح، وحيدة جداً، وقد تقطعت أوصال القربى بأهلها وفقدت حبيبها، وما عاد حولها من يؤنس وحدتها، ويرطب حياتها.

فتطوعت من تلقاء نفسها للمخابرات اليهودية الموساد القيام بمهمة جاسوسية دون مقابل، فقط لتحقق الانتقام وتصب جام غضبها على العرب أعدائها اللدودين، وكانت المخابرات الاسرائيلية حينها تكابد الويلات من العمليات الفدائية الفلسطينية، التي كان رأسها المدبر ثلاثة من قيادات فتح، رداً على عمليات الموساد في تصفية القيادات الفلسطينية في أوروبا، تلك العمليات التي هزت ثقة اليهود بالمنظومة الأمنية داخل دولة الاحتلال، ونشطت الهجرة المعاكسة نحو أمريكا وأوروبا هرباً من الموت المتفجر بلا مقدمات، مما انعكس سلباً على الاقتصاد المحلي، وعلى توفر الكفاءات اليهودية، وعلى إضعاف المعادلة السكانية لليهود قياساً بتعداد العرب، فدولة الصهاينة حاولت فعل المستحيل لتنشط الهجرة اليهودية بأعداد كبيرة، لهدف إحداث تأثير في منظومة التعداد اليهودي، لأنها تأمل أن تجعل اسرائيل دولة قومية يهودية الطابع، لتكريس الواقع السائد بسيطرتها على الأرض الفلسطينية وفرض املاءاتها على الفلسطينيين العرب، وتعيين سقف لتعدادهم بناء على التركيبة الأيدولوجية.

وأمينة امرأة ثملت بالجنون لدرجة فقدان المنطق، وفقدان الاحساس السليم بكرامتها، تمارس التياعاً مبتذلاً، وقد لفظتها الحياة إلى الهاوية السحيقة، تساقطها المتسلسل دوما يُحدث دوياً هائلاً، تتردد لصداه الأعماق، فلا يسعفها عقلها لاتخاذ الموقف السليم، ولا تقوى على العيش ضمن منظومة العقلاء، تعيسة هي وإن ادعت الابتسام، تحولت لمخلوق عجيب فاقد البصيرة والحكمة والاتزان، وحدها الكراهية هي ما تبقى من جملة الأحاسيس الإنسانية التي ما عادت تملك سواها.

وجهها الموساد نحو لبنان؛ لتندس بين جماعة فتح وتحصل على المعلومات الخفية، وتتوصل إلى أماكن القيادات الثلاثة أصحاب العقل المدبر للعمليات الفدائية الكبيرة المزلزلة، فتم تدريبها على كافة متطلبات الاتصال وطرق التخفي والحذر، فانتقلت بداية إلى النمسا من حيث بدأت، ولم يطل بها المقام للانتقال إلى بيروت في العام 1973م تحت مسمى طبيبة متطوعة لإعادة تأهيل المصابين والجرحى، وأقامت في شقة مطلة على صخرة الروشة الشهيرة، لتكون قريبة من مقهى الدولشي فيتا الذي يجمع كبار الشخصيات ممن يخدمها الاحتكاك بهم، فتغلغلت بداية داخل المخيمات مستغلة طيبة وبساطة الناس، وبدأت شيئا فشيئاً تصل لقيادات فتح واحداً تلو الآخر، ووصلت مكتب ياسر عرفات نفسه، وحصلت منه على تصريح يمنحها حرية الحركة بين المواقع التي تسيطر عليها فتح، فتمكنت من جمع معلومات خطيرة كانت ترسلها للموساد على الفور، ووصلت للشخصيات القيادية وحصلت على كافة مواقع تحركاتهم وعلى عنوانينهم الشخصية وبرامجهم اليومية، وتسببت بضرب الكثير من مواقع فدائيي فتح، وقتل الكثير من شخصياتهم المهمين، وكتبت في مذكراتها حول مدى ما كانت تشعر به من النشوة والفرح التي كانت تتملكها عقب كل عملية كانت فيها الطائرات الاسرائيلية تدك المواقع التي أشارت لهم عليها، وأنها كانت تتلذذ سماع صراخ زوجات القتلى وأطفالهن، وتقول لنفسها المريضة.. هل من مزيد؟

وصلت إليها أيدي المخابرات الفلسطينية بعد بحث وربط وتحليل وتعليل، ووضعوا لها شركاً سرعان ما وقعت فيه، واعتقلتها المخابرات الفلسطينية عام 1975م، واعترفت بكل تفاصيل عملياتها، إلا أنه تم مقايضتها بعد خمس سنين سجن بأسيرين فلسطينيين لدى الجيش الاسرائيلي، بعملية تبادلية أعادتها للعيش في اسرائيل، رفض ذووها كل محاولات اتصالها بهم واثارة مشاعر حنانهم، وأخبروها أنهما ضمن الأموات في عرفهم، وغيروا أرقام هواتفهم.

وكل ما حصلت عليه من الموساد مقابل خدماتها الجاسوسية، ما نشر في مطلع عام 1984م في مجلة (بمحانية العسكرية)، وضمن مربع صغير جدا في أحد أعمدتها الثانوية، بأن اسمها تصدر لوحة شرف جواسيس الموساد ضمن أمهر العملاء… حقاً أغلب العملاء عاشوا حياة طويلة لكنها مبتلاة بالإذلال، وبتحقير ذاتهم بعمق وهو الأشد مرارة وتعذيباً.

أمينة داوود المفتي.. هي تلك الفتاة الشركسية الأردنية التي سقطت في الهاوية السحيقة، ولم تستطع أن تنتشل نفسها من القاع، فقضت وحيدة في عتمة القاع، وهي فاقدة ذاتها في عتمات الضياع النفسي.

[ratings]

هيام فؤاد ضمرة – الأردن

1 تعليق

  1. إبراهيم يوسف

    الأستاذة هيام ضمرة

    لو كنتُ معنياً يا صديقتي ببعض جوانب النص..؟ لأحرجَتْني هذه التفاصيل، وكان ينبغي في اعتقادي عدم الإشارة المباشرة إلى الأمكنة والأشخاص. أما الأحداث والتواريخ الواردة في النص؟ فأعتقد أنها تتسم بدقة ملحوظة.

    كنت أقطن في بيروت إبان عملية الكوماندوس الإسرائيلية 1973، حينما تم اغتيال القيادات الفلسطينية من فتح في ڤردان، أحد شوارع العاصمة بيروت. وكان المنفِّذون يرتدون الثياب الهيبية للتمويه، وإيهود بارك كان في عداد من شاركوا في تنفيذ عملية الاغتيال.

    وكان كما جاء في صحيفة النهار، قد صدر كتاب في (إسرائيل) بطلته – ياعيل – مقاتلة الموساد، وتتحدث فيه عن دورها في عملية (أفيف نيعوريم) أو ربيع الشباب، حينما اغتالت الاستخبارات الإسرائيلية الموساد ثلاثة قياديين في منظمة التحرير الفلسطينية، وهم كمال عدوان وكمال ناصر ويوسف النجار، بحجة أنهم المخططون للعملية ضد أولمبياد ميونيخ .

    من يدري..؟ ربما كانت شخصية العميلة التي أشرتِ إليها في النص..؟ قد ساعدت بشكل ما على بتنفيذ عملية الاغتيال..؟ وقد تنحى يومها صائب سلام رئيس الوزراء اللبناني عن منصبه، لعدم إقالة بعض الضباط في الجيش اللبناني، ممن حمَّلوهم تبعات التقصير في التصدي للعملية الإسرائيلية.

    ويبقى دور النساء الجميلات عالي الإفادة في التجسس، مع النوايا الحسنة وقلة الفطنة ورخاوة الذكور العرب.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.