“الممثلون” يتقمصون شخصياتهم!
(الفيلم المرشح لاوسكار الاخراج والتمثيل)
عندما يطلب “جان-بيار مارييل” اناء من المياه الساخنة، يتجاهله النادل اللئيم بأحد مطاعم الشانزليزيه، فينتظر بلا جدوى…فهل يعود السبب الى مؤامرة ضد الممثلين “المتقاعدين” ام لأن نجمه قد أفل ولميعد جذابا وشخصية هامة؟ هذا هو المشهد اللافت الذي يستهل به فيلم “الممثلون” للمخرج الفرنسي “برتران بلييه”: ثم تشتعل الخلافات وتنشأ المشاكل، ويختفي الوئام والانسجام بمثل هذه الأجواء “النكدية” الطاغية: فيتشاجر جان كلود بريالي مع بيار أرديتي، كما يكن سامي فراي وأندريه دوسوليه الكراهية لبعضهما البعض، ولا تتردد جوزيان بالاسكو بالانضمام لجوقة الكراهية احيانا، في حين يفرط “ميشال بيكولي” بتناول الكحول بادمان، كما يزعج “كلود ريش” الجميع بمزاجه النكد المتقلب، كما انضم للفريق النجم الفرنسي الشهير “جون بول بلموندو” بكاريزميته وطاقته المعهودة… هكذا تتعرى الشخصيات الحقيقية للممثلين (بقصد) وكأنهم يقفون امام “مرآة” كاشفة، ونصل لحالة متدحرجة متضخمة من الازعاج والنكد، حيث تبدو “الحالة النكدية” وكانها وباء معدي لا علاج لها!
يعود المخرج الفرنسي المبدع “برتران بلييه” ليقدم بعد غياب طويل هذا الفيلم الغريب، الذي يجذبك لمشاهدته لأنه يعكس طبائع البشر وخيباتهم واحباطاتهم ونكدهم المعدي، وينجح بالغوص بحيوات الفنانين المليئة بالجروح والندوب والمعاناة، مقدما ممارسات ومهارات اخراجية فذة، ومتلاعبا بالمشاهد “المنجذب” عبر مواجهة ما يعرفة الناس عن الممثلين وما يعرفه هو عنهم وما يعرفونه هم عن أنفسهم وطبيعة مزاجهم…فيلم تجريبي لافت وممتع!
أفضل ما في هذا الفيلم الغريب نجاح “بلييه” في دمج المشاهد بالأحداث، ودفعه للتفاعل والقلق تجاه مصائر هؤلاء الممثلين (نخبة من النجوم المشهورين سابقا) اللذين بدأوا يعانون من الفراغ والتهميش والاقصاء مع دخولهم القسري لمرحلة التقاعد او اقترابهم التدريجي من الشيخوخة والموت، فهو يدفع الامور بعيدا بشريطه المميز، وينجح باعطاء “ممثليه” الموهوبين مرآة صافية تعكس لهم صورهم ووجوههم وسلوكياتهم ،وتكاد تبدو كمرآة او “كشمس” كاشفة تعكس للجميع المخاوف والهواجس بلا تنميق وتجميل وبجراة مطلقة
…وقد وجدت تشابها لحد ما مع التحفة السينمائية الحديثة “بيردمان”، الذي يتعرض لحياة وهواجس ممثل مسرحي “قديم” يستبسل لاسترجاع مجده الاستعراضي (وكذلك عائلته وكيانه الشخصي)، بعد أن أفل نجمه او كاد، حيث يغوص بنا المخرج المكسيكي الفذ “اليخاندرو انياريتو” في “منولوج طويل صادم” مستعرضا احباطات وهواجس “الممثل العجوز” الذي بدا وكأنه يتفوق على ذاته (مع باقي الممثلين وخصوصا ابنته والممثل اللامع ادوارد نورتون، الذي ظهر بشخصية جديدة وتم التعاقد معه خصيصا لانجاح المسرحية)…هذا الفيلم الغريب الذي يتناول قصة ممثل سابق (أبدع بتقمص الشخصية مايكل كيتون) كان يؤدي دور بطل خارق، وهو يحاول هنا جاهدا استعادة شهرته وكاريزميته النجومية كممثل مسرحي، وقد صور بطريقة “مسرحية” عبر “مونولوج” ايقاعي متصاعد طويل مستعرضا بشكل مشوق ومبتكر خيبات وهواجس واستعدادات الممثل “المتقاعد” والمنسي، والذي يسعى ثانية بحماس لاعادة اطلاق مجده “المطفي” عبر مسرحية جديدة، مستخدما ممثلا شابا مشهورا جذابا للنساء وعابث ولامبالي، وعبر اجواء سينمائية فريدة مدمجة مع لقطات فنتازية وموسيقى معبرة لاهثة وحوارات “غير مسبوقة” ذكية ومعبرة وساخرة، حيث نرقب بالتدريج خفايا المشاعر وتطورات حالة الممثل والمحيطين به وانطباعات الجمهور بتلقائية معبرة، كما بحالة مغادرته للمسرح “شبه عاري” بعد ان انغلق الباب فجأة من الداخل، او كما بتصوره لهلوسات والكائنات “الخرافية الروبوتية” لأفلام الخيال العلمي السائدة حاليا، او كما بطيرانه “الفانتازي” المفاجىء بانحاء الحي،حت ىتصل الامور لذروة متوقعة وصادمة عندما يطلق الرصاص على أنفه قاصدا الانتحار (بالمشاهد قبل الأخيرة) وهو يتقمص دور الزوج المغدور والبطل الخائب، اوعندما يختفي من شرفة غرفته بالمستشفى وكأنه قذف بنفسه من النافذة، فيما تشير ايماءآت ابنته المذهولة “ايما ستون” لكونه طار من النافذة “كرجل طير خارق” وكأنه تحررأخيرا من كل الضغوطات والهواجس والخيبات والاحباطات بعد تأكده من النجاح الساحق الذي حققته مسرحيته اخيرا…ولكن أليس الموت بحد ذاته يعد (فلسفيا) تحررا من عبء الحياة وخيباتها، وخاصة بعد وصول المبدع لذروة مجده ونجاحه، وربما يختلف هذا الشريط (المتفاءل نسبيا) عن فيلم المخرج الفرنسي بهذه النقطة تحديدا التي تزرع الأمل في النفوس، وان كان التركيز “النرجسي” هائلا وغير مسبوق بهذا الفيلم، كما بدا لبطل وكأنه يتوهم بتمتعه ببعض القدرات الخاصة الخارقة!
وجدت نفسي منساقا بشكل عفوي للمقارنة بين هذين الفيلمين الغريبين الشيقين بالرغم من قدم الأول الذي انتج بالعام 2000 وحداثة الثاني (المرشح لعدة اوسكارات) والمنتج بالعام 2014، ولو أن “الكوميديا السوداء” هي السمة العامة لهذين العملين الرائعين، الا أن الفيلم الفرنسي يغوص بحالات متدحرجة من التشاؤم والنكد وربما الواقعية “المحتملة الحدوث”، فيما يميل شريط المخرج المكسيكي للابهار والطرافة والفانتازيا، وهنا يكمن الفرق.
التقييم *** و **** حسب التسلسل
مهند النابلسي
الرجل الطائر أو هو فيلم كوميديا سوداء أمريكي 2014 من إخراج أليخاندرو غونزالس إناريتو الذي قام بالمشاركة في كتابته وإنتاجه. الفيلم من بطولة مايكل كيتون وإيما ستون وإدوارد نورتون وأندريا ريسبوروج وأيمي رايان وزاك غاليفياناكيس ونعومي واتس.
لعل أفضل ما يقدمه الممثلون وأطباء علم النفس والكتاب أيضا..؟ مساعدة الآخرين من المرضى وهم يتخطون الحاجز، بين ضفتي الحياة والموت ولو ببعض الشجاعة والتفاؤل. “ولعل الموت على المذهب الحمصي..؟” من أبسط الأشياء سواء في عالم الحقيقة… أو الوهم.
أنت يا صديقي مبدع وخلاّق. دقيق الملاحظة وصاحب مخيلة خصبة في دنيا السينما والروايات، وحرام يا مهند أن تضيع مواهبك “بالبلاش”. لكن لا تحزن يا صديقي فنحن ننتظر إعداد وصدور الكتاب، وأتمنى سلفا لو يتم تدقيقه جيدا قبل النشر. محبتي وكن دوما بخير.
روعة كلامكم وتشجيعكم ودعمكم ولا أقول اكثر من ذلك وسأهدي اول نسخة لكم على عنوانكم البريدي في لبنان لذا يرجى ارساله لي بدقة على البريد الألكتروني وسأهدي نسخة اخرى للاستاذ شوقي القائم على هذا الموقع التفاعلي الجميل ونهاركم سعيد…
بالأصالة عن نفسي خَيِّ مهند، والنيابة عن د. شوقي، لك منا الشكر الجزيل. الأستاذ بسام الحاج حسن هو المشرف على السنابل. أما نحن فمن “البوطة” التي تساهم في تحرير الموقع. خالص مودتي وامتناني، ودعائي لك بمزيد من العطاء والعمر الطويل.