*مهند النابلسي: جزيرة الكلاب” لـ”ويس أندرسون”: تحريك تجريبي مجازي آخاذ…(Isle of Dogs 2018).. فانتازيا تحريكية فريدة وطريفة تناقش مواضيع القمع والفساد والبيئة وتضافر مقاومة “الكلاب المضطهدة البائسة” الناطقة مع تعاطف المراهقين الشجعان!
*استهلال: فيلم خيالي تحريكي حول الكلاب التائهة “المنبوذة” الناطقة في اليابان، يمثل انعكاسا واسقاطا مجازيا ذكيا للحالة الأمريكية – العالمية الراهنة، يقوم بانجازه المخرج المبدع “ويس أندرسون”، وقد اطلق لأول مرة في مهرجان برلين العالمي في فبراير 2018، كأول فيلم تحريك يعرضه المهرجان في حفل الاستهلال.
*يشير هذا الفيلم الغريب (الذي لم يلقى الرواج عربيا) لعدة ثيمات متداخلة ذات مغزى، منها:
حيث زعيم حكومي بيروقراطي متسلط يتلاعب بالديمغرافية البشرية والحيوانية لتثبيت سلطته…كما يوجد مجموعة من أطفال المدارس يتجرأون، وويتخذون موقفا مغايرا ضد السلطة الرسمية الفاسدة المنتخبة، عندما يتقاعس آباؤهم عن القيام بذلك، انها باختصار ثيمات لها علاقة بواقعنا العالمي الراهن، وتتسم بالغرابة والخصوصية الصادمة!
*انه فيلم الرسوم المتحركة الثاني لأندرسون، بعد “فانتاستيك مستر فوكس” لروالد دال، حيث بدا تأثير”دال” واضحا على حركات وسكنات الحيوانات الشجاعة والمراهقين المعزولين، اللذين يشعرون بالوحدة والاقصاء والمعاناة فوق الجزيرة المتروكة النائية.
*انه فيلم غريب وفريد حقا، حتى كنمط تحريكي، حافل بالدهشة والصراحة وحس الفكاهة الكامن…يشوقنا بمتابعة قصص مجموعة طريفة غريبة من الكلاب الشاردة “العاقلة”، ويبدو التماثل والتناظر هنا بالغ الاتقان، فالنصف الأيسر من الشاشة يتطابق تماما مع النصف الأيمن بطريقة هندسية، ولا نكاد نلاحظ الفرق!
*وتبدو لمسات مستر أندرسون الاخراجية الابداعية جلية، فهو يتحدث هنا عن عالم شاب يدعى “سوكو”، يسرد لنا بشغف قصته، وهذا الفيلم لم يلقى الحد الأدنى من الرواج هنا في عمان، حيث يصعب على مشاهدي “البوب كورن” العاديين، فهم مغازي التحريك الابداعي الحافل بالمضامين، كما لا تؤخذ هذه الأفلام اساسا على محمل الجد.
*ملخص الفيلم: انه يحكي باختصار قصة “آتاري كوباياشي”، المراهق الذي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، كما يشير الفيلم لفساد رئيس البلدية الكهل “كوباياشي” الفاسد (المحب للقطط)، عندما يقوم بالقاء جميع الحيوانات الأليفة في مدينة “ميغاساكي” لجزيرة المخلفات المهجورة هذه، حيث تتراكم هناك النفايات الملقاة…وحيث ينطلق الشاب اليافع الجريء بطائرته الغريبة عبر النهر للبحث عن كلبه الشخصي الحارس الذي القي هناك قسرا، ثم هناك وبمساعدة مجموعة مخلصة من الأصدقاء من باقي الكلاب “الأليفة والضالة المتروكة معا”، يبدأ صديقنا رحلة ملحمية شجاعة لتقرير مصير الولاية واستبصار مستقبلها، انه فيلم مغامرات وخيال علمي ودراما مشوقة، مع مزيج من الفانتازيا والكوميديا والتحريك الفريد من نوعه.
*الشريط يتحدث واقعا ومجازا، فهناك زعيم حكومي بيروقراطي فاسد ومتسلط ولئيم (وما أكثر هؤلاء في دول العالم الثالث)، كما يوجد بالتوازي هناك مجموعة من اطفال المرحلة الاعدادية الواعين الأذكياء والشجعان، اللذين يتحدون معا ويتخذون موقفا مناوئا للسلطة المنتخبة الفاسدة (خذ كمثال البرلمانيين الفاسدين بدولنا “العربية” اللذين نجحوا بشراء الذمم والأصوات والعلاقات المريبة)، فيما يجبن بالطبع آباءؤهم ويخفقون تماما بالمقاومة، وتبدو الاشارة جلية هنا مع واقعنا العالمي البائس الفاسد والمتواطىء.
*العلاقات هنا غريبة ومدهشة، وتبدو الكلاب “حكيمة وذكية وغير متهورة”، عكس “هبل وتهريج” أفلام التحريك الاخرى، وحتى الكلاب “الروبوتية” هنا فهي تؤدي دورها باتقان وحذر ودراية، هذا الفيلم ليس كما يبدو مخصصا للأطفال وتجمعات العائلة، بل للراشدين والمراهقين الأذكياء…وقد نجحت مجموعة أصوات الممثلين الصاخبة والساخرة والحكيمة في تمثيل الشخصيات “الكلبية” المتفاوتة، والتي تعكس وجهات النظر والتوتر ما بين جزيرة المخلفات المتروكة ومدينة “ميغاساكي”، حيث تتأجج المؤامرات والتوافقات والتناقضات، ودخول السحر والغموض في الفصل الثالث، ومواجهة الشخصيات الأمريكية الطاغية مع الشخصية اليابانية المتراخية المنددة، فتجد الامور الحل بواسطة صراع العضلات الهائج احيانا بدلا من الحوار المتبادل الهادىء!
*تجري معظم الأحداث هنا في مركز ريفو، قبالة سواحل اليابان في جزيرة تراش المهملة، حيث تم التخلي بقصد عن حوالي 750 الف كلب بعد تفشي مرض انفلونزا معدي وقاتل…انه مكان مروع حقا، يتمثل بأرض قاحلة سامة تفتقر لكافة مقومات الحياة الصحية والهواء والطعام، وتنتشر فيها القوارض والجرذان بكثافة، لكن البارع اندرسون مع متخصصي التحريك والرسوم المتحركة يجدون جمالا ما في هذه الجزيرة الغريبة، ويكشفون امكاناتهم الجمالية بمشاهد تلو الاخرى، من ملعب جولف مهجور الى كوخ غريب مصنوع من تراكم زجاجات عرق الساكي الياباني “الزاهية الألوان”، كما ينطبق الأمر ذاته على الكائنات المتواجدة، التي تعاني بمعظمها من “لطخات لونية زاهية”.
*وفيما يذعر المرء من مشاهد هذه الوحوش المريضة البائسة، ولكن ذلك لا يمنعنا من الاستمتاع بقصص هذه الكلاب التي تكشف “العمق المراوغ والمغزى الكامن” لهذه القصة التحريكية الطريفة والفريدة:، فهناك صوت “برايان كرانستون” المخيف والمروع، كما يوجد هناك كلب “صيني” أنيق ظريف يحب “القيل والقال” (جيف جولد بلوم)، كما يوجد هناك كلب عصابي ثالث يحب التصويت دوما، ثم الكلبة البهلوانة المحنكة (سكارليت جوهانسون)، التي تحاول الهام الجميع بحركاتها الطريفة (النغشة بالعامية)، والتي تشكو دوما من قلة تفاعل هؤلاء اللذين تحبهم!
*يدخلك البارع أندرسون لقلب التقاليد اليابانية الجذابة، من اعداد طبق السوتشي الشهير، ثم لمسرح الكابوكي الفريد ولطبول التايكو الشهيرة…ثم يذهب بنا لمتاهة الرحلات الجوية المفاجئة للجزيرة المهجورة القاحلة، ثم يسبب لنا صداعا ابداعيا خفيفا بعرضه الشيق للمتاهات السردية الغير معقولة، ليتوقف سعي الشخصية بلا سبب واضح، لنعود وندخل في متاهات قتالية ضارية لمجموعات الكلاب، وهكذا…
*ملخص نقدي شامل:
يكمن الأمر الأكثر اثارة للدهشة في مصداقية أندرسون، الذي يقدم عمله المدهش هذا خدمة للفوضى التحريكية الابداعية.
يكمن سحر هذا الفيلم بتكويناته الفنية، مع روح الدعابة المضحكة، وادراجات الرسوم المتحركة المفعمة بالثقافة السردية الحاذقة واللافتة.
يمزج اندرسون ببراعة ما بين الأصوات المراوغة المعبرة عن حب الكلاب، مع الرسوم المتحركة الجديدة.
ندخل هنا بالحق لتجربة مشهدية ممتعة، تتمثل مع صوت “بيل موري” المعبر، وأجواء الشرق الأقصى الفريدة.
ينجح أندرسون بالتلاعب الظريف ما بين البهجة والرهبة.
يعلن المخرج هنا حبه وشغفه الخاص لكل الأشياء اليابانية باسلوب تكريمي مثير، ويقدم خفية تحية كامنة لعباقرة الاخراج الياباني: أكيرا كوروساوا وهاياو وهايا ولستوديو “ميزانكي” الشهير.
يعمل هذا الفيلم بمثابة علاج مشهدي لذيذ لمحبي وهواة الرسوم المتحركة، ولمحبي أفلام سينما أندرسون على حد سواء.
انها بمثابة حكاية بذيئة صريحة تفصيلية حنونة مفعمة بالبهجة.
يتطلب الفيلم وعيا لاقطا للالمام بقصص الفساد والنزعة العسكرية المتسلطة، ويتسبب بمذاق حارق لأي شخص ساذج غير قادر على التخلي عن فكرة “بؤس العالم الخارجي”!
بدلا من السعي التجاري الاستهلاكي لارضاء جميع الأذواق، فان اندرسون يجعلنا نتوه بقصد في ثنايا عمله التحريكي الممميز هذا…
الفيلم عبارة عن مجموعة مدهشة من التركيبات المشهدية “التجريبية” الغريبة والغير مسبوقة في أفلام التحريك التجارية، وحافل بالأصوات المعبرة والنغمات المتقنة، ويعتبر استهلالا لفن تحريكي فريد من نوعه، وحافل بالشغف والحب والتفاعل والمغزى، وهو يعتبر بالتأكيد منفرا لهؤلاء اللذين عجزوا عن التقاط المغزى والتكامل، ومع ذلك فقد نجح تماما بعرض رؤيا خيالية لافتة لعالم الكلاب العصرية ومعاناتها المتنوعة في البيئة العصرية، كما ربطنا كمشاهدين مع الخيوط المتعاطفة لهؤلاء الكلاب الغريبة الفريدة!
أخير يعود صاحب تحفة “مستر فوكس الفانتازية”، ويس أندرسون بعد افتتاحه لتحفته “فندق بودابست الكبير” في العام 2014 بمهرجان برلين الدولي، يعود مرة اخرى ليفتتح نفس المهرجان الشهير في العام 2018 بفيلمه الفريد هذا عن “جزيرة الكلاب التحريكية”، يعود رائد السينما الأمريكية المستقلة، يعو د للغوص في البعد الياباني التحريكي المذهل والفريد، لينافس اليابانيين في مجالهم الابداعي المميز في سينما التحريك، وليحقق تقييما متقدما نادرا يزيد عن ال95% في موقع نقاد “الطماطم الفاسدة” العالمي الشهير (97%/ وما يزيد عن الثمانية بالعشرة)، ولكن حضور تحفته هذه كان باهتا وضعيفا على الأقل في مجتمعاتنا العربية التي لا تستوعب هذا النوع من التحريك المجازي الزخم والغريب!
/ كاتب وباحث سينمائي متعمق وانطباعي/ عمان-الاردن
0 تعليق