تحفة “ماذرليس بروكلين”(2019) “الغير متوقعة”:
*عودة شيقة للسينما البوليسية الكلاسيكية اللافتة أغفلها معظم النقاد العرب كعادتهم:
*تذكير “درامي” عميق مؤثر بسرقات الفساد الكبرى “المتغولة العنكبوتية” في مشاريع البنية التحتية والمواصلات للمدن العربية الكبرى!
*ملخص شامل:
دراما اجرامية كاشفة على نسق تحفة بولانسكي الخالدة “شاينا تاون”/1974…
*يقدم هذا الفيلم على خلفية خمسينات القرن الماضي في نيويورك وبحي بروكلين تحديدا، حيث يقوم “ليونيل ابسروج” (ادوارد نورتون بأداء مذهل فريد)، وهو محقق خاص عنيد ووحيد يعاني من متلازمة “توريت” (الطريفة)/ بالشروع جادا ومجازفا لحل لغز مقتل معلمه وصديقه الوحيد ومرشده الروحي فرانك مينا (بروس ويليس)، مسلحا ببضعة خيوط دالة وبمحرك عقله المهووس الصادق، ليكتشف تدريجيا جملة اسرار تخضع لحراسة مشددة من قبل عصابة متنفذة مجرمة، واضعة المدينة الضخمة ومشاريعها التنموية في الميزان…ثم تنكشف معالم اللغز تدريجيا وتنقل البطل “الجريء-المسكين الوحيد” من نوادي الجاز العتيقة الكلاسيكية في حي هارلم الزنجي المعروف الى الأحياء الفقيرة للسكان البيض والأقليات في احياء بروكلين القديمة والمتهالكة…وصولا لقاعات وسطاء القوة والنفوذ المتغولين في قلب نيويورك الباردة واللامبالية، ويضطر ليونيل أثناء رحلته “التحقيقية” الخطرة للتعامل مع شتى أصناف البلطجية المجرمين ومع بؤر الفساد المتفشية وصولا لأخطر رجل متنفذ جسور في المدينة…ساعيا بعناد وتصميم لتكريم ذكرى صديقه المقتول الراحل ولكشف ملابسات مقتله، ثم لانقاذ المرأة السمراء الجميلة المتورطة غصبا عنها، حيث انه قد تكون خلاصه الوحيد بحياة جديدة فيها أمل ومستقبل…كما أني والحق يقال اندهشت لخلو الشريط الطويل من اية مشاهد “غرامية-جنسية” ضمن السياق، فيما نلاحظ أن الكثير من الأفلام الروائية العربية السردية الحديثة تحفل بالكثير من هذه المشاهد المقحمة أحيانا بلا ضرورة عضوية وظيفية… وكأن “قلة الحياء وخدشه” قد أصبح سمة مقبولة ومحبذة للكثير من السينمائيين العرب اللذين يسعون لتغطية فشلهم الاخراجي بهذا المشاهد المستفزة كما لاحظت مرارا للأسف!
*ملخص نقدي متوازن:
من تمثيل واداء مبهر لادوارد نورتون ومن اخراجه: تقييم النقاد/الجمهور: 61-80%:
*لقد كان طول الفيلم ضروريا ومسليا، حيث يتطلب الصبر لمعاينة تداعيات الأحداث المتعاقبة اللاهثة والداء القوي اللافت لنورتون، والمنظور البوليسي الفريد بطريقة معالجة القصة المعقدة المتداخلة، مما جعل من هذا اللغز المركب جديرا بالمتابعة، ولم يسرق نورتون المشاهد كما يقال بل وزعها بالتوازن لكل الحالات الضرورية وحسب السياق السردي…
*الفيلم برمته مربك بحيث أن المشاهد قد يتوه احيانا ويفقد تركيزه…نظرا لامتداد العمل ومنحنياته العديدة وتصاعد المخاطر تدريجيا، وقد بدا في البدء بطيء السرد ومزاجي عميق، ولكن اداء ادوارد نورثون المذهل أرسل لنا جميعا رسالة اخلاقية تحذيرية لافتة ترتبط بمحاذير تغول القوة المطلقة وامكانية الفلتان من العقاب عشقا للفساد والجشع ولنتذكر انتفاضات الربيع العربي الجديدة المثابرة والمناضلة لوضع حد للتفوذ والتغول والفساد…الخ…علما بأن شتى أشكال الفساد الرسمي والسلطوي والعادي والشعبي ما زالت جلية تعبث بباقي البلاد العربية (بلا استثناء) وتلك التي نجت من تداعيات الربيع العربي الكارثية، مع ضعف وجود آليات نزيهة جدية وأدوات فعالة لمعالجته وكشفه والتقليل من تأثيراته الكارثية على الاقتصاد والمجتمع والقيم والأخلاق العامة!
*كما نوهت فالشريط يغوص بجراة خلال التعرجات الشيقة لفيلم بوليسي مركب ويتشابه لحد بعيد مع منهجية تحفة “الحي الصيني” لبولانسكي في ال1974 مع اختلاف طبيعة التفاصيل، وذلك حسب اقرار المخرج نورتون.
*قدم نورتون الشخصية بطريقة كوميدية مقصودة مع كم كبيرمن الاحساس والحدس والعاطفة، وحاول ان يوازن ما بين دراسة الشخصية المرضية وتفاصيل الأحداث ذات الطبيعة الحركية الديناميكية، وسعى لتقديم حل توافقي مرضي للغز كبيرغامض، وبالحق فقد وجدته ممتعا كناقد مستقل، سواء من منطلق التعمق باحداث المدينة الكبيرة الجريئة، او بمحاولة استباق ليونيل بطريقة تحقيقه الخاصة (التي تجمع الهبل بالذكاء)، وباسلوب تحقيقه الخاص وتقصي مشاعره من خلال خيوط اللغز المركزي للقصة الشيقة…
*في الخلاصة: فهذا الشريط يمثل وجبة من الميلودراما السينمائية الغنية بالغموض والجريمة والتساؤلات والطرافة، وقد أثبت لنا اسلوب “ادوارد نورثون” الاخراجي المبتكر هذا انه يمكن ان يكون ممتعا بقدر اسلوبه التمثيلي اللافت مع متلازمته المدهشة، وربما لا يذكر احدا سواي من النقاد أن نورتون سبق وقدم هذه المتلازمة بابداع لافت في فيلم “ذا سكور” مع كل من مارلون براندو ودي نيرو في العام 2000 (وهو فيلم طريف يتحدث عن سرقة صولجان أثري مطعم بأحجار كريمة من متحف كندي محروس جيدا)، كما لاحظت للأسف مؤخرا ممثل تلفزيوني مصري مغمور يقدم هذه المتلازمة ببلاهة تامة محاولا تقليد نورتون!
*نظرة انطباعية عميقة لتفاصيل الحبكة:
*ركزت رواية الكاتب “بوناتان ليتيم” على المحقق الذي يعاني من متلازمة “توريت” والذي عمل كمراسل للتحقيق بمقتل رئيسه ووالده البديل(بروس ويليس بدور فرانك مينا)، وهو الذي انتزعه صغيرا مع غيره من ميتم كاثوليكي للأطفال وتبناهم ورباهم معه كمخبرين…حيث كشف ليونيل بمسار تحقيقه مع زملاؤه عن مؤامرة تتعرض لصفقات تحسين الحالة العمرانية لمدينة نيويورك في الجزء الأخير من العقد العشرين (وقد ذكرنا الشريط بمشاريع السرقة الكبرى التي تتم بدهاء ومشاركة عنكبوتية كتومة في مشاريع امانات المدن العربية متلازمة مع مشاريع المواصلات الكبرى التي تأخذ اكثر من عقد من الزمان وما زالت غير منجزة بعد، فهناك ايضا كمثال ناطحتي سحاب شاهقتين بنيتا على طرف عاصمة عربية كبرى منذ اكثر من عقد وهجرتا باهمال بلا تشغيل بفضل التخبط وسؤ التخطيط ونقص المال وقلة الحيلة وربما الفساد)!…فالرواية كتبت بالثمانينات، لكن نورتون نقلها للعام 1959 تحديدا، واضعا بصمات كتاب الجاسوسية الكبار”رايمون شاندلر ودامشيل هاميت” لتبدو أكثر حيوية وتشويقا، حيث يتميز أليك بالدوين بدور بيج باد “موس راندولف”، وهو باني رئيسي طموح أتوقراطي غير منتخب وجسور لا مبالي (وفاسد كبير متغول)… يسعى جاهدا لبناء المنتزهات والكراجات على حساب تشريد مئات الالوف من العمال البائسين والأقليات والسود الأفريقيين الفقراء! بالمناسبة فقد ذكرني ذلك بممارسات الفساد والتنفيع والتغول المسكوت عنها في العديد من المدن والعواصم العربية، فيما يختص بملفات استملاك الأراضي المشبوهة والتطوير الحضري واقامة المشاريع البنيوية الفاشلة التي تتأجل لسنوات او تنجز بشكل رديء بلا مواصفات معتمدة بفضل فساد المقاولين والمنتفعين “الرسميين” وتعطل مصالح الخلق والعباد والمستفيدين!
*تظهر النسخة النهائية بشكل “نوار حديث” شبيهة لحد كبير بمنهجية “شاينا تاون لبولانسكي “/1974(والتي شاهدتها بشغف طازجة في بروسل عاصمة بلجيكا بالعام 1975 أثناء اقامتي التدريبية كمهندس ببلجيكا لمدة عام وأعدت مشاهدتها بنفس الشغف بعد حبسة الكورونا الطويلة على محطة الام بي سي)، حيث يتم التركيز على الرجال المشبوهين الأقوياء، اصحاب القبعات الأنيقين المتغولين، فنرى هنا مسار التحقيق في جريمة واضحة المعالم يقودها متنفذ متسلط قوي في أعلى السلم الاجتماعي، وصولا لباقي أفراد العصابة، تجسيدا للثروة والقوة والفساد، مستخدما دليله الوحيد المتمثل بالمحامية السمراء “لوري روز”، وهي ناشطة اجتماعية متعاطفة مع ضحايا التهجير والنزوح السكني، لكن الغرابة تكمن بمقاومة نورتون لرغبته بالوقوع بحبها (عكس ما يحدث عادة بأفلام الدراما)، حتى يستمر بمثابرة وعناد للتوصل لكل الحقائق الصادمة تتابعا…
*الشيء الثاني اللافت في الشريط يتمثل بالاسلوب الأنيق التدريجي لتقصي الحقائق في اجواء تمزج عناصر العنصرية المؤسسية الكامنة بالفساد والتحديث والتطوير الحضري في نمط الحياة الأمريكية الجارف والطموح، ومن اللافت هنا طريقة تحديد أدوار الشخصيات الاجرامية والمعنية بحبكة نظيفة متقنة تماما..ابتداء من الزوجة مينا جوليا (ليزلي مان) ومرورا بكافة زملاء نورتون من دار الأيتام وزملاؤه (دالاس روبرتس وايثان سوبلي وبوبي كانافال (الجاسوس المتواطىء)…وصولا لناشط الحي “الكهل” العنيد الغامض”هورويتز” حتى معظم سكان الطبقة العاملة في بروكلين ومجتمع السود الفقراء مع عازفي الجاز والبوق الشهير “بايلز ديفز ومايكل ويليامز”، وكذلك مالك النادي الأسود قوي الشخصية الذي عاد بعاهة بيده اليمنى من مشاركته بالحرب العالمية الثانية والذي تمت تصفيته لاخفاء الحقائق!
*فكاهة ذكية ومفاجآت عديدة وتغول كاسح:
“بروكلين يتيم الام” هو الاسم الرمزي لبطل القصة:
*بالرغم من جدية القصة الا انه يوجد الكثير من الفكاهة الذكية الكامنة وحتى المنظورة بطريقة اداء نورتون المميزة الكاشفة، كما بتداعيات حالته العقلية وحركاته الخاصة، كما يحوي الشريط تشويق قائم على سلوكيات الشخصيات، حيث لا يمكن احيانا توقع المفاجآت، وهناك كم كبير من الاستياء العنصري تجاه الممارسات الفوقية للبيض المتعجرفين، وتظهر خصوصا برغبة المتنفذ “راندولف” اللامبالي على كسر واهانة أي موظف عام يقف بطريقه لتأخير واعاقة خطته المريبة لاعادة تشكيل نيويورك…
*تبدو شخصية ليونيل حزينة وحساسة مرهفة، متأثرا بفقدانه لمرشده وأبيه الروحي، كما ربما بذكريات وجروح الطفولة ومعاناة التهميش الاجتماعي، ويبدو نورثون وكأنه يراعي شقين بطريقة سرده للقصة: العنصرية والتمييز على اساس الجنس والشهوة فيما يقرب من حوالي ساعتين ونصف، مع ضرورة التركيز على التفاصيل الدقيقة لكي لا يفقد المشاهد حس الفكاهة والتوصيفات القوية لمجرى الأحداث والمواقف الطريفة العديدة التي يتحفنا بها!
*البعد السياسي- الاجتماعي وفساد التطوير الحضري وقصص المال والنفوذ مع العمق العاطفي:
*وبعد فهذا نموذج للفيلم “السياجتماعي”(سياسي-اجتماعي) ونسخة مبتكرة عصرية بنكهة جديدة لتحفة الحي الصيني لبولانسكي1974 وقد أتت ثمارها تماما، فوصفت الاوضاع المحتقنة للطبقات المسحوقة (المتنوعة عرقيا) بنيويورك الخمسينات واسترجعتها باتقان لافت، وسلطت الأضواء على ممارسات العنصرية والاقصاء والنفوذ والفساد، حيث تماثل نمط الاخراج مع انماط “كين لوش البريطاني وسبايك لي الأسود الأمريكي” من حيث الثيمة الاجتماعية العميقة وبراعة التصعيد التدريجي للحبكة، وان كان يحوي بعض المثالب التي لا يمكن انكارها لكن فيه عودة حميدة للسينما الأمريكية الكلاسيكية التي بتنا نفقد نكهتها هذه الايام وليس فقط لنمط الحياة الأمريكية المعهود…ومع أنه يمثل للجمهور الملول وجبة ثقيلة الهضم، لكنه قوي ومتين ومتماسك ويتضمن شعور حقيقي بالوقت والزمان والمكان، كما يتضمن معلومات تاريخية اجتماعية وافكارا نيرة كاشفة حول أساليب واسرار التخطيط والتطوير الحضري وتداعيات الفساد المصاحبة من نفوذ وتغول وسؤ ادارة ونصب واحتيال، وقد أدخلنا بسلاسة لأجواء بروكلين الخمسينات والستينات ولروعة موسيقى الجاز السائدة، وتفوق نورتون باداء عاطفي مذهل واستثنائي وأعطى الفيلم نكهة طريفة وان كان قد ازعجنا بالطول والمبالغات والشطحات الميلودرامية أحيانا، ولم انسى أخيرا طريقة قتل الرجل الوحشي العملاق الذي طاردهم باسقاطه من درج البناية الحديدي وقد بدا المشهد طبيعيا بلا تصنع ويوازي ربما باتقانه مشاهد مشابهة بأفلام الأكشن المشوقة!
عرض شيق مع ربط واقعي مع تداعيات الفساد العربي المتغول شرقا وغربا!