نساء متمردات

بواسطة | 24 مارس 2021 | مقالات | 0 تعليقات

رابط إلى الفرنسية للدكتور شوقي يوسف

يعتقد الكاتب الروسي الأميريكي فلاديمير نابوكوف أن اللغات متكافئةٌ في المعنى وفي الصوت، وأن المتخيّل في لغة ما، يمكن إعادة تخيله في لغة أخرى دون أن يؤدي النقلُ الى معان جديدة او زائدة. يشكك النقاد وأصحاب الإختصاص بسلامة هذا الاعتقاد ويجاهرون بقناعتهم أن اتّقان النقل ضربٌ من المُحال حتى لو كان الناقل يتقن اللغة او اللغتين، ذلك أن الترجمة تنطوي دائما على قراءة مضافة. وإذا كان المترجم مثلي لا يتقن اللغة، فإن النقل غالبا ما يُشوّه النص ويُخفيه. ويزيد الطينَ بِلة إذا كان النص في نسخته الأولى باهتا وفقيرا، لا يجد المترجم فيه إلا معاني طافية مفككة ومهزولة، فيُفارقه بعد الترجمة مُشوّها أكثر مما كان. هذا اعتقاد مقصور على النصوص السوقية والغثّة ولا يشمل الكتابات الغنية التي تنبض بالحياة ــ كالنص الموجود بين يديّ الآن ــ والذي يحمل دلالاتٍ ثقافيةً تقتلها الترجمة الحرفية المتسرعة ويُحييها حبُّ النص. وأنا مُحبّ لما يكتبه الدكتور شوقي عن النساء، فهو مسكون بحبهن، فيعوِّضني الشغفُ بنصوصه المسكونة عن اتقان اللغة، ويُعينني على فهم فرنسية هي أقلُّ اللغات صبرا عليّ وطواعية لي، وما كتبه جواشان دي بيليه ” دفاعا عن الفرنسية ” كتبه بعد أن نفد صبره مني و من النَقَلَةِ المتطفلين، وقد شعرتُ به يتناولني بقوله الجارح دون أن يسمّيني، مدّعيا أنني انتقصتُ من مجده و من مجد اللغة يوم ترجمتُ إحدى قصائده (السونيت) بشيء من الخفة والعِثار فقال متسائلاً: “ما عساي أقول في هؤلاء الذين يليق بهم لقب الخونة أكثر من لقب المترجمين لأنهم يخدعون أولئك المؤلفين وينتقصون من مجدهم ويغوون الجهلة من القرّاء بقراءة ربما تكون مقلوبةً: ألأبيضُ فيها أسودُ.”

عادل

ما أكنّه من ميل للنساء ــ يقول الدكتور شوقي ــ ميلٌ طبيعي بعيد عن الشهوانية ولا تدركه الحواس، وقد خَبِرتُ قليلا من الرجال الذين ابتعدوا عنهن بشكل إرادي، ليعانوا من جراء هذا الإبتعاد حياة بائسة مسلوبة من نعمتيْ الحب والحنان. وقد كان لي خلال يُتمي فرصة العيش سنينا تحت رعاية جدّتي التي احتضنتني بطريقة حانية جنّبتني كثيرا من جراح اليتم وآلامه، ما ترك في القلب ذكرياتٍ حميمةً لا تُمحى. هذه النعمة التي هبطت عليّ من الجنس الأنثوي كما تهبط النعم أصبحتْ بعد سنوات ميلا رصينا واعيا وعقليا نحو احترام النساء وتقديرهن. فأن تعيشَ في نفس الوقت مع خمس نساء هن: زوجتي وحماتي، ابنتي وخادمتين تجربةٌ غنية زودتني بكثير من الرضا عنهن جميعا. ولا أخفي ــ في المجال الأدبي ــ متعة البحث عندي عن سِيَرِ نساء متمردات من الزمن القديم يقاربُ ما كتبْنه جديدَ أفكارنا الآن ويوازيها. وفي معبد من اشتهر منهن تكمن صعوبة الإختيار: جورج ساند، كوليت، مدام دي سفينيي، ماري بونابرت، أنّا دي نوييل، نينون دي لونكلو…

انتشر مفهوم المرأة الأديبة (التي تقرأ وتكتب) بفضل الصالونات الفكرية التي انبثقت في بداية القرن السابع عشر كصالون كاترين دي رونبويي الذي أُسّس سنة 1608 وبقي ناشطا حتى وفاتها عام 1665. زرعت هذه النشاطات البذور البعيدة والخصبة للثورة الفرنسية، وهيّأت الحركة النسائية لتلعب دورها الريادي اللاحق في عصر التنوير. وللهرب من نقد الذكور الجارح استعملت الكاتبات أسماء مستعارة: كجورج ساند، الأخوات برونتي، جورج أليوت، سافو، وجان أوستان… وقد اعتُبرت أصواتُهن عصيانا جريئا على العادات السائدة حتى قال فولتير:” لم يخلق الله النساء إلا لتدجين الرجال وترويضهم. “وكان قوله يتأرجح برأيي بين معان متعارضة تتحمل الرفض أوالقبول. ولم يتأخر الوقت حتى رأى النورَ أدبُ الرسائل الذي لمعت فيه مدام دي سفينيي، وغالبا ما اشتُهرت الكاتبات من خلال فظاظة النقد ونقد النقد اللذين أسفرا عما ندعوه أفكارا حرة أشعلت من عشرات السنين معركة المساواة بين الجنسين، ومعركتيْ حقوق المرأة وتحرير العبيد.

أثمر القرن الثامن عشر حركة أدبية نسائية عُرفت بحركة الجوارب الزرق، وهي تسمية مستعارة من اللغة الإنكليزية وتشير الى جوارب الحرير التي يرتديها ضيوف الصالون الأدبي لإلزابيت مونتاغي (1720 ــ 1800) ويبدو أن تلك الصالونات النسائية المتعقلة كانت تتقبّل حضور الرجال شريطة أن يكونوا أذكياء ومن ذوي الكفاءات الفكرية. وقد ندد كتّابٌ مثل فلوبير وبلزاك بالكتابات النسائية في الوقت الذي ارتفع صوت أولمب دي كوج يدافع عنها وعنهن قائلة: “إذا ساوت النساءُ الرجالَ في اعتلاء المقصلة، فإن لهن الحق أيضا في اعتلاء قوس المحكمة.” وفي حمأة الصراع الحاد بين الجنسين كتب جول رينار عام 1905 مهاجما الأدب النسائي بخبث ظاهر عندما قال: إن النساء يبحثن عن مؤنث كاتب، الا يكفي مؤنثا: “صاحبة الجورب الأزرق” إنه مؤنث جميل وكامل إن لم يعجبهن مؤنث: “منتحلة صفة.” ولم تتأخر الأكاديمية الفرنسية في صراع اللغة ــ ولما سببه تصريح رينار من جروح عميقة ــ حتى أجازت مؤنثا للكاتب بزيادة حرف التأنيث الفرنسي على مذكر الكلمة.

قد لا تكون الكتابة في هذه المقالة شاملة ومتماسكة دون أن أذكر ما عرفتُه عن امرأتين من القرن العشرين تركتا بصمات جلية على الحركة النسائية هما: أناييز نين وفريدا كالو (صورة المقال) عُرفتْ الأولى بيومياتها التي واظبت على كتابتها حتى فارقت الحياة. وسببت علاقتُها بهنري ميلر وزوجته فضيحة في الأوساط الأدبية فقد كانت أناييز مزدوجة الرغبة الجنسية. وكانت فوق ذلك أولَ امرأة تمارس الكتابة الإباحية وتجاهر بكثرة عشاقها حتى قالت بجرأة لا تعهدها النساء: يولّد احتكاكُ اللحم باللحم طيبا وريحا عطرا، بينما يولد احتكاك الكلمة بالكلمة فُرقة وخلافا. {لقد كانت أناييز امرأة برية كما وصفتها كلاريا بيكولا في كتابها “نساء يركضن مع الذئاب” حيث قالت: إننا جميعا نفيض شوقا وحنينا الى الحياة الوحشية والبرية، غير أن ترياق الحضارة لا يترك لهذا الحنين منفذا، تعلّمْنا أن نشعر بالخجل من مثل هذه الرغبات، فتركنا شَعرنا يسترسل ووارينا به مشاعرنا. غير أن ظل المرأة الوحشية ما زال ينسلّ خلفنا ويكمن في أيامنا وليالينا. وبصرف النظر عمن نكون، فإن الظل الذي يهرول خلفنا هو في النهاية ظلٌ يمشي على أربع. إضافة من المترجم}

وأما فريدا (1907 ــ 1954) التي تعرضت لحادث سير ترك جانبها ضامرا ومتوقفا عن النمو، فاستغنت عنه بجانحين خفيفين وورثت بالرغم من آلامها مهارة والدها الفنية، فرسمت أشهر بورترياتها وهي مسمرة فوق سريرها. كانت فريدا كسابقتها أناييز من حيث ميولها الجنسية ومثلها أيضا في الجرأة عندما قالت: ” إنني أشرب لأغرق في آلامي، لكن البغيّ التي تسكن في أعماقي علّمتني مهارة العوم.” لم تحب فريدا أوروبا، فقد زارت باريس ورفضت البقاء فيها محاولة التأكيد على عمق ارتباطها بالبلد الأم (المكسيك). أعلنت انتماءها الفني للسريالية التي اعتبرتها من ألعاب السحر التي يفاجئك فيه الأسد مختبئا في خزانة الثياب. وأخيرا وربما بدافع الشهرة التقت بليون تروتسكي الذي على الأرجح ذاق من عسلها وذاقت من عسله قبل ان يلاقي مصرعه في مكسيكو من عام 1940

لم يبلغ القرن الثامن عشر نصفه الثاني حتى شيّدت جيرمان دي ستال (1766 ــ 1817) مع شاتوبريان المداميك الأساسية للرومانسية الفرنسية. بعد أن علّمتها أمها سوزان الموسيقى والشعر والرقص والفلسفة فبرعت باكرا في أدب الرسائل. ولأنها عاشقة للمفاهيم المتحررة فقد قدّرت تقديرا عاليا قتالَ النساء من أجل حريتهن. سُمّيَ أبوها مرتين وزيرا لمالية لويس السادس عشر قبل أن يشهد سقوطا مدويا بعد إعداده ــ في الوقت الصعب من حرب الولايات المتحدة وإنكلترا ــ ميزانية متقشفة. ولم يكن اعتقاده الديني ليُسهّل عليه أعماله في بلد متعصب للكثلكة. بحثت العائلة عن نبيل بروتستنتي لتزويج ابنتها وتحقق الحلم ممسوخا بشراء بارون سويدي مفلس يكبرها بعشرين عاما وكان سفيرا لبلاده في فرنسا. لم يحمل هذا الزواج سعادة لجيرمان التي بقيت طوال حياتها تبحث عن حبها الضائع الى أن أرتبطت برباط الحب والعفة مع المثقف والناشر السويدي بنجامين كونستان الذي خادنها وجعل لها مكانا دافئا في القلب بعيدا عن الحرارة الزائدة للعلاقات الجنسية.

للمرأة عموما نصيبان رابحان: أن يكون لديها قسط من الجمال أو نصيب من الذكاء. لم تكن جيرمان جميلة ولا بشعة، لكن نصيبها من العقل كان راجحا ووفيرا يتجاوز مثيلاتها في المعاصرة. ناصرت في بداية الثورة أفكار المتمردين في التحرر من عبء النبلاء والعائلة المالكة، لكن الإنقسامات داخل المعارضة أخرجت الصراع عن مساره الآمن، فسقط مزيد من المفكرين المشهورين ضحايا آلة القتل (المقصلة) التي اخترعها الطبيب جوزف غييُوتين. وكانت جيرمان المرعوبة من غزارة الدماء قد تكهنت بما هو أسوأ ولم يمض إلا قليل على سقوط الأوليغارشية الحاكمة حتى أحكم نابليون سلطته على مفاصل الدولة وتهيأت أوروبا كما توقعت الكاتبة للغوص في بحار دمائها، لم تتوقف جيرمان عن دعم المتمردين لكنها ذهبت لتأييد بعض الشخصيات المتنورة في صفوف النبلاء بهدف إنشاء نظام سياسي ملكي شبيه بالنظام الانكليزي. حاولت الدفاع عن ماري أنطوانيت بلا طائل، ولما ازدادت حدة الخصومات مع نابليون وابتدأت حملات النقد الخشن ثم الهجمات والهجمات المضادة كما هو حال إعلامنا اللبناني الآن حتى كتبت قائلة: إنها الخطوة الثانية ياتجاه الملكية وأخشى ما أخشاه أن يصبح هذا الرجل إلها من آلهة هوميروس توصله الخطوة التالية الى جبل الأولمب. لم يتخذ نابليون أي إجراء ضد هذه المعارِضة الشرسة، لكنه اعتبرها طائر شؤم يُنذر حضورها بالخلل والخراب الكبيرين، ثم أبدى رغبته بنفيها خارج العاصمة. وعندما تهكمت على مرسومه الغريب في إصلاح التعليم نفاها من كل فرنسا. أقامت الكاتبة في جنيف في قصر أبيها الذي تحول الى ناد أو مزار يأتيه من كل فجٍ رجالُ الأدب والسياسة والفلسفة وأصحابُ الرؤى المستقبلية. شكلت مع شاتوبريان عموديْ الهيكل الرومانسي فبينما كان الأديب الفرنسي يكتب ” ذكريات ما وراء القبر” تمجيدا وحنينا للقيم المسيحية، انشغلت جيرمان بالكتابة عن آلام النساء في مواجهة ضغط المجتمع وإكراهاته فقد كانت حرة في أعماقها ولا ترى المزايا الإنسانية العظيمة إلا في الأمم الحرة.

إذا كانت الفلسفة مجموعة من المفاهيم المتجانسة والمجردة، فهل كان في أفكار جيرمان شيء من الفلسفة؟ لم تحاول مدام دي ستال أن تقيم مثل هذا البناء، كما لم تحاول الإجابة عما يُشغل بالَ الفلسفة من أسئلة عقلية، لكن الأدب اختلط في كتاباتها بالفلسفة، فعالجت الوجود الإنساني من خلال مفهوم السوداوية اللاإرادية التي وضعتها المؤسسات الأخلاقية والدينية. وكان بحثها عن السعادة التي هي هدف نهائي لكل فلسفة يمر في طريق باتجاه واحد هو البحث عن الإحساس بعدم القدرة بعيدا عن القدرية التي اخترعها حكماء الزمن اليوناني القديم. لم تحاول هذه السيدة ــ خلاف كتّاب عصرها ــ ان تجمع مادة كتابتها من الشخصيات والأحداث التاريخية السابقة لكنها وصفت مجتمعها المعاصر بعيون ثاقبة، وقاتلت عاداتِه السائدةَ بشجاعة وعناد عرّضاها دائما لاحتمال النفي او القتل. وما كتبتْه عن ألمانيا كان لفتح الأبواب الفرنسية أمام الحركات الأدبية والفلسفية الناشطة التي كانت برأيها تتجاوز نظام الكثلكة المتحجر. وقد مجّدت ــ الى جانب انفتاحها على الثقافة الألمانية ــ الشرط الإنساني في جوارحها ورغباتها ومنحنيات حياتها الداخلية معتمدة على ما يوحيه لها قلبها وعقلها الوازن فكتبت تقول: أهم ما نقدمه لتسيير هذا العالم بالحكمة اللازمة هو حمل الآخرين على أن يشعروا ويفكروا بطريقة مختلفة عنا. وفي مثل هذه الأفكار الجريئة تكمن بذور الإبداع والديمقراطية. فالمرأة التي تعرفت على غوتيه وشيلر وعلى نخبة واسعة من المفكرين الأوروبيين لم تتوقف عن الصراخ في وجه العالم الفاسد فغلّبت متأثرة بالمفكرين الألمان ثنائية الطبيعة والروح على عالم متفسخ وموزّع. انزوت في أيامها الأخيرة في قصر أبيها، تدهورت صحتها بشكل دراماتيكي، وماتت بتلف دماغي. وفي عام 2017 ذكرى مرور مئتي سنة على وفاتها كُرّمت بضمها الى نادي المبدعين الفرنسيين (البلياد)، وكانت قد صرحت قبل ان تلفظ أنفاسها الأخيرة عن رأيها أو رغبتها الحكيمة والأثيرة في تفضيل خمور الدنيا على خمور الآخرة.

نقله الى العربية م. عادل الحاج حسن

مهندس وكاتب لبناني

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.