نجمة القصر

بواسطة | 22 ديسمبر 2017 | قصص قصيرة | 0 تعليقات

نزعت الشمس ثوبها الذهبي واستلقت عارية في عمق المحيط. ثم لفَّت الأوراق نداها وتوسّد الماء الحصى، وآوت طيور الليل إلى أوكارها تحتضن فراخها وتنام آمنة في أعشاشها، وقد غفت البذور في لب الثمار، واليعاسيب الصغيرة لجأت ترتاح من عناء النهار في مراقدها؛ حيث يجري جدول مياه باردة نعمة يشرب منها عطشى المخلوقات في الأرجاء المجاورة، والنحلات النشيطة تخدرت بقطرات الرحيق وهي تعود إلى خليتها.

وتدثرت الفراشات بالندى في بتلات زهور النرجس تقص عليها حكاياتها، وتل مسحور بفعل الطبيعة وأجراس أرض الأماني الذهبية. أما جفنات الكروم فتتحرك فيها بذور العنب كمن تنام في أحشائها الأجنّة؛ والبوم أرقه طول السهر ونغص نومه في الجوار شخير شجرة بلوط هرمه، فآنسته صراصير الليل تغني أغنيات الحب لمن جفاه النوم وأرقته الليالي الطويلة، وعيون أهلها غطت في سبات هانئ لذيذ، واستيقظت أرواحهم تفتش عن أحلام، ادخرتها منذ زمن طويل داخل بئر عميقة من الأسرار. فماذا لو لامست حقيقة ما يراود فكرها في عتمة الليل البهيم؟

تسللت بخفة على أطراف أصابعها إلى شرفة المنزل، تحمل عصاها السحرية التي خبأتها تحت الفراش بعيدة من حشرية العيون النهمة؛ العصا التي وهبتها لها جنية تقيم خلف منارة البحر، شعرها حرير من ذهب أصفر وعيناها بلون الربيع الأخضر، تعلو بها في الفضاء على جناحين بشفافية النور إلى عالم سحري بديع، يلمعان كأنما نثر عليهما رحيق بطعم لم يذقه مخلوق بعد.  أبوها لا يعتقد بوجود الجان وأمها تتحاشى قصصهم وتخشى ذكرهم، أما هي فلا تخشى العفاريت؛ فتمطتي عصاها السحرية في كل ليل وتشق قلب السحب عابرة بها نحو الفضاء الفسيح.

كانت الأرض تصغر وتصغر كلما ابتعدت عنها، حتى وصلت إلى الفضاء السحيق غايتها الأخيرة، حيث تقطن الجنيات التي تغزوها في المنام. رحب بها القمر حارس بوابة السماء، ولاحت على وجهه ابتسامة مشرقة، سرقها من ضوء الشمس في النهار، والنجوم كانت مشغولة عنها بإعداد أحلام الصبايا والشباب، ترسلها مع الجنيات إلى الأرض بعد الانتهاء من توضيبها في علب هدايا لعيون العاشقين، والشياطين كانت تطوف في الأنحاء تحاول سرقة الأحلام من الجنيات، وحينما لا يحالفها حظها تلجأ إلى بث الخوف في أفئدة وضلوع البشر، لتصنع منها كوابيس الناس تبعثها إليهم على ظهر مارد جبار يغزوهم بلا رحمة في المنام.

رأت نجمة بين ملايين النجمات تنفرد بصناعة أحلام وردية من قلوب وشذا الأزهار، سألتها أن تبوح لها بمغامرات الفضاء وحكايات القمر وقصص الكواكب والنجوم. قالت لها النجمة: الفضاء ليس إلاّ وجه الإنسان السماوي، وكل ما ينطبع في الإنسان من روح في الأعالي، تجدينها في النجوم والكواكب والأقمار، وكل مخلوق في الكون له قصة لا يعلمها إلاّ الغيب وكائنات الفضاء. لكنني سأقص عليك حكاية نجمة بإيجاز، ولن أخفي عليك تفاصيل نكهتها لكي تشاركي متعتها مع فرح العشاق.

كتب في زمن مضى وفي الصحف الأولى من تاريخ النجوم، أن نجمة ولدت من نور الكون الأزلي، ونشأت من سر الحب المقدس مخلوق الله قبل الوجود، فقدسته وأضاءت له العمر وسبحت في مجراته، وأصغت إلى كل ترنيمة عشق عذبة تردد صداها في الكون السحيق، وتوهجت عندما ارتقت إلينا من لحن ناي حزين. صنعت منه أحلامها الجميلة وأسلمت روحها المرهفة إلى السكون، والجلبة تتهادى إلى سمعها كأنها صوت ضعيف قادم من الأرض يرافق آهات قلوب البشر المعذبين. تردد كلاما في السماوات عذبا شجيا، حينما ابتهلت من إله الكون وخالق الحب أن يحولها إلى أنثى بجمال ملائكي، وملاك صديق ساعدها في حمل دعائها إلى خالق السماء ومبدع الأرض ومانح الهبات بلا حساب كما في كتب السماء أو في الأساطير.

واستجاب لها رب السماوات والأرض ومنحها ما تريد، لتعود وتهبط إلى الأرض بعدما تحقق طلبها بالدعاء وتحولت إلى أنثى بالغة الرقة والأنوثة والجمال، ولما رآها صاحب الصوت تأملها وهام في عمق عينيها، واحتسى من جمالها وأسكره حسنها وشبهها بصديقها القمر، فنسي كل من عرف قبلها وبعدها من النساء ليترك فيها أثرا سحريا لا يمحى أو يزول، وهو يقف أمامها ويتحقق حلمها الذي راودها في اليقظة والمنام.

حملها على جناحيه وهبط بها في أرض بعيدة، وقصر فسيح لم تشهد مثيلا له من قبل. فيه آلاف الغرف المليئة بشتى أنواع التماثيل من أطفال وملائكة ونساء عاريات منحوتة من الذهب الخالص، وعاج بلون أجساد النساء. وتطل شرفات القصر على حديقة بديعة فيها من أصناف الزهر والثمر ما لذ وطاب. هكذا عاشت بجانبه أياما أشهى وأطيب من طعم العسل. كانت تقضي جل نهارها في حضنه تأنس بكلامه والاستماع إلى أخباره فتهابه وتجلّه كالملوك ويعظم في عينيها يوما إثر يوم، وهي منصرفة إليه يعوضها عن الدنيا وما فيها من المباهج والأفراح، وكان يغادرها من جديد كلما حل المساء ولا يعود قبل انبلاج الفجر.

وذات يوم زار القصر حطاب يبيع الأخشاب، وتبدو على وجهه ملامح الخير والطيبة، وقف تحت الشرفة ينظر نحوها فرأت في عينيه نورا، لم ترَ مثله في عيون البشر ولم ترَ كبهائه وسحره من قبل. سألها بخشية وتردد عن صلة القربى بينها وبين صاحب القصر ومن أي أرض قدمت إليهم؟ فقد بدت له غريبة عن سائر أهل البلدة في الجوار، وأخبرته أنها  حبيبة صاحب القصر وقد قدمت من موطن بعيد. ورأت الحطاب وهو ينظر إليها قبل أن ينصرف بعين الشفقة والرثاء.

هكذا قضت في القصر زمنا جميلا طابت معه طعم الحياة، ونشأت بين جوانحها لذة لو وزعتها على أهل الارض لما عرفوا بعدها بؤسا ولا شقاء. حتى سافر سيد القصر لأيام طويلة ثم عاد من سفره وقد  تغير حاله كثيرا عما كان عليه، وبدأ يصب عليها غضبه في الصباح والمساء، فأساء عشرتها وانقلب رضاه إلى جفاء، وصار متقلب الفكر والمزاج، ومشتت الأحوال يقابلها بالغضب وبالتأفف لأتفه الأسباب. هكذا انقبض ضوء حياتها وخبا النور في عينيها شيئا فشيء وانكشفت حقيقة فتى الأحلام.

صار أمير القصر يكثر من الشراب بغير حساب، ويأتي كل يوم بامرأة أخرى تنام معه في غرفتها، حتى أتى ذلك اليوم الذي هجرها  وطردها من قصره بلا ذنب إلاّ أنها أحبته وأخلصت له بكيانها كله. تاهت أياما طويلة في الطرقات لا تعرف ملجأ ولا منزلا تأوي إليه. أصابها الفقر وتمزق حذاؤها ودميت قدماها من المشي حافية، فذبل جسدها الغض وغاب نور وجهها وعينيها. دارت على نفسها في حلقة مفرغة مرهقة الجسد، لا تعرف النوم ولا الأحلام الهانئة التي كانت تروادها أيام عيشها في قصر الأحلام، وقد انتزعت من قلبها ونفسها كل أسباب السعادة والعيش برخاء، وعرفت لأول مرة كيف يكون الحزن وقسوة الدنيا وكيف تكون التعاسة والشقاء.

ألمّ بأعماقها وجسدها الوهن وهي لا تعرف أي طريق تسلك، حتى أخذها طريق طويل إلى غابة تنتهي بشاطئ بديع يريح العين ويخفف عن النفس الهموم، حيث استراحت تحت أغصان شجرة وارفة الظلال، وهي مطرقة برأسها كنعجة تنتظر سكين اللحام. ثم تكور جسدها على نفسه وسرقتها من نفسها إغفاءة قصيرة، وحينما أفاقت من نومها رأت أفعى عوراء العين، يتدفق من بين أنيابها دم يميل لونه للسواد، وعندما بلغتها الأفعى صرخت بأعلى صوت وهبّ لمساعدتها على التو رجل قادم من ناحية الشاطئ أتى مسرعا لنجدتها، وهي تتوسل للأفعى وتسألها باسم الرب أن تعفو عنها فلا تؤذيها فانسحبت الأفعى واحتجبت خلف الأشجار، ولما وصل الرجل إليها تعرفت من ملامحه أنه الحطاب.

بقي الحطاب يجود عليها بالطعام والماء والغطاء، وينام  ليس بعيدا منها لحمايتها. وهكذا وثقت به وارتفعت في عينيها قيمة الحطاب.  بعد أيام قليلة وبينما الحطاب يتجول في الغاب ظهرت أمامه الأفعى العوراء، ولم يكد يهم بقتلها حتى تدخلت الفتاة للدفاع عن الأفعى على الفور، وقد اختبأت بين الحشائش وتوارت عن عينيه، بين ما تساقط من أوراق الأشجار. لكن الرجل صفعها بقوة من حيث لا يشعر بسبب تدخلها لتمنعه من أذى الأفعى، فيرتطم رأس الفتاة بالأرض وتسقط مغشيا عليها دون حراك.

ولما عادت لوعيها؟ وجدت الأفعى على صدرها تنظر إلى عينيها وتطمئنها، وقد اصفرّ وجهها وتجمدت أطرافها وتوقف الدم في عروقها عن الجريان. قالت الأفعى: “لا تخافي يا صديقتي إنما أنا جنية طيبة لا تؤذي لكنه حقد عفريت في السماء حولني إلى أفعى تبدو عليها إمارات الشر. بعدما فقأ عيني ورماني من علو شاهق في الفضاء، وقد سقطت في بركة ماء ساعدتني على النجاة.

شكرت الأفعى الفتاة على إنقاذها لها، وسألتها بدورها عن حالها وحكايتها، فقصَّت عليها ما جرى معها منذ أن كانت نجمة في الفضاء حتى هبطت إلى الأرض وكيف وصلت إلى الغابة، ووعدتها الأفعى بمساعدتها في العودة إلى موطنها الأول في الفضاء؛ ولكن ليس قبل أن تنتقم لها من سيد القصر.  توسلت إليها الفتاة لكي تعفو عنه، وكانت لا تزال تحفظ الود لقلب الأمير، فلم تلتفت إلى كلامها وتركتها وذهبت إلى قصره بسرعة البرق. وحالما أبصرته وقفت أمامه فتجمد في مكانه، وبردت أطرافه وتغيرت صورته وخانته أعصابه.

ولما كانت الجنية تتقن إعداد الحيل، ولها ما ليس لسائر البشر من القدرة على فعله، فقد تركت صورة على هيئتها في القصر تلتف حول صدر السيد وعنقه، وعادت إلي الفتاة مسرعة كما غادرت، فسعت أمامها والفتاة تتبعها ثم حملتها إلى خميلة في وسطها كوخ مهجور، رآها الحطاب ترافق الأفعى وتدخل برفقتها إلى الكوخ المهجور، فخاف عليها وبقي يأتي إليها كل ليلة بالدثار والطعام والماء وينتظر فرجا من السماء.

بقيت تتأمل السماء وتطيل إليها النظر فتراها مدهشة صافية كحديقة تزينها المصابيح فتلمع وتبرق وتضيء، والنجوم صغيرة تتوهج من بعيد كحبات لؤلؤ منثور، ونسمات الليل تدغدغ وجهها وتحمل إليها سلاما من أهل السماء، والقمر يسكب أشعته في صدرها يربت على كتفيها ويغمرها بنوره الأخاذ، فيزيد شوقها ويعصف بها الحنين إلى سمائها وفضائها وهي تجهش بالبكاء.

سجدت الأفعى في زاوية من زوايا الكوخ، تقابل برأسها عرش رب السماوات، طمعا أن تعود النجمة كما كانت، حتى استجاب لرجائها الإله وحان وقت عودتها للسماء. همست الأفعى في أذنها تقول لها: إن قلب الحطاب متيم بك ثم وعدتها بتسخير كنوز الأرض له للشكر والعرفان. تملكتها الفرحة والحسرة وتمنت في أعماقها لو تبقى على الأرض تنعم بالحب إلى جانبه. لكنها لم تجروء على الطلب منها مرة ثانية. وهكذا حملها ملاك على جناحه ونقلها إلى السماء بسرعة النور ورفة الأجفن ، وقد وجدت نفسها من جديد نجمة في السماء. وبقي الحطاب ينتظر عودتها من يوم إلى يوم ويبتهل إلى الله من أعماق الليل ليستجيب للدعاء.

عادت الصبية نجمة في السماء، تتمنى للحطاب أحلاما مليئة بالسعادة والسرور، آتية من معاني القلب الخاشع الرقيق. نجمة تعبد الخالق وتبتهل إليه فتسبح وتطوف وتصلي، وتقتبس من نوره نورا تضيء به الأرض والسماء. الأرض بمن فيها وما عليها من الجبال والفيافي والبطاح. من قصور الأغنياء وأكواخ البسطاء وقلوب المحبين والظالمين على السواء. ممن يستحقون النور المنبعث من السماء يضيء دروب أهل الأض.

انتهت قصة النجمة وعادت إلى ديارها يحدوها أمل العودة في اليوم التالي لتستمع هذه المرة إلى حكايات القمر، إلا أنها تفاجأت بأن عصاها السحرية انكسرت وضاعت منها  في متاهات الزمان.

إيناس ثابت - اليمن

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.