كل شيء بعدك تغيّر

بواسطة | 16 أغسطس 2020 | مقالات | 6 تعليقات

image.png

بالأمس عندما زرتني، وعدت اليّ مع العصافير التي عادت بعد رحيل الشتاء، قدّمت لي بيمينك حبة برتقال، وبيسراك قصفة قندول، أدمت راحتيك التي قلّبت كل البراري، بالأمس، عندما دَرَجّتَ في مساحة حلمي، كطفل صغير، وبحثت عني في كُل الأماكن ، كنت انتظرك هُناك على مقعدك الخشبي العتيق، وكانت ثمة أُمنية قد تحقّقَت، أُمنية عجزت ان اصوغها..؟ كيف عدت اليّ بعد كل هذه السنين..؟

وكنت سعيدةً بحضورك الذي عطّر جدران بيتي، برائحة الطيّون والزعتر.. لطالما عَاتبّتُ أنامل الدهر التي فرّقت شملنا، ولكنك عُدت يا والدي، وكانت نظراتك الحنونة، تتساقط علي بيداء روحي؛ كقطرات المطر..

وفي مساحة الحلم، تحدثنا طويلاً، واسترجعت ذاكرتنا كثيرًا من الذكريات الجميلة، المنقوعة بالعسل، والمرشوشة بالسُكّر.. ذكريات عن طفلتك المُدللة التي لم تكبر، والتي كانت تُجافلك كل يومٍ ، لتخبئ لكَ جريدتك الصباحية، وكنت كل مرةٍ تسامحني، تمسد ضفيرتي الطويلة، وتربّت على ظهري، وتحمل محفظتي ، لتوصلني حتى عتبة المدرسة..

بالأمس، عندما زرتني، تحدثنا طويلا، وسألتني عن تخوم الزيتون، وكرمة العنب، وترابنا الاسمر.. وذكّرتني بالسنونية الصغيرة التي كانت تعشش في سقف شرفتنا الغربية، وامتعضت، حين اخبرتك انها رحلت، وعُشّها تحجّر..

وكنت تصغي لي بروحك وقلبك، وعيّنيك اللتين كنت ارتشف منهما الحنان الأبوي الشّفيف، وحلاوة الصّبر..

وبكيت كثيرا يا والدي عندما اخبرتك، انك ما زلت بالبال، رغم انه كل شيء بعد رحيلك تغيّر..

الوان المروج تبدّلت، والسماء والجّبال، وصوت صياح الّديك، وأحراش الصّنوبر..

كانت قلوبنا كبيرة تتسع لكُل هذه الأشياء.. وتعشق الغيمة الكريمة، واللوزة المُزهرة، وتستعذب مياه النهر..

ولكن ثمة يد خفية، جعّدت قُرص الشّمس، وعبثت بوجه القمر. وحوّلتنا لدُمىً آدمية، تتحكّم بمشاعرنا رقائق الكترونية، نتبادلها بالصّور..

وقلت لك يا والدي، انه بهرجة هذه الحياة ورفاهيتها وجمالها الآسر، سلبت الإنسان عقيق روحه، وضميره.. وفتنته بالمظهر!

واخّبرتك ان الناس اصبحوا غُرباء، رغم انهم متجاورون، واحدهم بالكاد يرى الآخر، يعيشون بصناديقٍ مقفلةٍ، يعجز عن اختراقها سبارتكوس العظيم، وجيش اسكندر..

فأطرقت رأسك قليلا يا والدي، وهدّأت من روعي، واعدتني للزمن الجميل، حيث صفاء العيش وطيب المعشر، حيث كانت القهوة المهيّلة، تدور بدار الفرح! وحيث اللقمة الهنيّة، المغموسة بالرضى والتسليم، وبما قسَمَت يد القدر..

وحدثّتني عن عزة نفسٍ منحتكم الاكتفاء رُغم الحاجةِ، والاتكال على الباري، دون البشر..

و طمأنتني بأن خزائن رحمة الله لا تنفد، رغم قسوة الزمان، وتقلّبات الدهر..

وترقرقت من مقلتي دمعة عصيّة، عندما تذكرّت ايامنا الحاليّة الحُبلى بالمآسي، والأحداث الرهيبة، التي تناولتها، يد الغدر.. والتي أفقدت الإنسان هيبته، وأمنه وأمانه، بأسرع من طرفة عين ولمح البصر..

وفي مساحة الحلم، سألتني بشوق يعقوبٍ، عن اخوتي وهل هم بخير؟ فطمّنتك عن حالنا، وحدّثتك عن أولادنا الذين لم ترهم، وانهم اصبحوا، شبّانًا أشداء، بجمال القمر..

وكم حزنت يا والدي عندما استيقظت من حلمي الجميل، قبل ان أُخبرك بأنني ما زلت ابنتك البارّة، رغم هذا الزمن الأغبر..! ورغم أن كل شيء بعد رحيلك..؟ تغيّر.. ولكن بيّدر الخير الذي في قلبي زَرَعْتَ.. ما زال أثبت من الوشم، وما زال كما أردته، أخّضر، أخّضر..

ملاحظة: الصورة من ريف جنين/ فلسطين.

شهربان معدّي كاتبة من الجليل.

6 التعليقات

  1. إيناس ثابت

    صديقتي الغالية شهريان

    تحلق روحك في عالم بريء متخم بالحب، ينبض بالعطاء والدفء والصفاء والنقاء والقيم السامية..

    أنت يا صديقتي وبلا مبالغة..تربة طاهرة لا تنبت إلا زهور حب بيضاء.

    الرد
  2. إبراهيم يوسف

    العزيزة شهربان

    الموت يا صديقتي؛ جزء من عجلة الحياة، فطوبى
    للأرواح المباركة تزورنا ولو في الأحلام
    وبوركت الأيدي المشققة… تلتف حول المعاول
    تشقى لتحيي وتخصب أرضا بوارا.. بعد الموات

    “دارة دوري فينا ضلي دوري فينا
    تا ينسوا أساميهن.. وننسى أسامينا
    وان سألونا وين كنتوا؟
    وليش ما كبرتوا أنتو؟ منقلن نسينا”
    الأطفال لا يكبرون في وجدان آبائهم

    https://www.youtube.com/watch?v=rTts79RsEBE

    طيب الله ثرى الأخوين رحباني وفيلمون وهبي
    ويطول بعمر فيروز ست الكل، السنديانة المنيعة
    التي برينا أقلامنا من جذوعها
    فاضت على حياتنا وقلوبنا بالفرح والعطاء وعلمتنا
    كيف نواجه مآسينا.. فلم نبادلها ولم نف حقها علينا

    تجافلك مفردة جديدة على قاموسي .. شكرا لك
    جفل الحصان..؟ نفر وشرد
    جَفَلَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ : سَاقَتْهُ، ذَهَبَتْ بِهِ بعيدا
    “يبدون بشرا والنفوس كظيمة
    يجفلن بين ضلوعهم.. إجفالا”

    لا تستغربي كيف هجرتنا السنونو بعدما
    تحولت حياتنا وأكواخنا من الأخشاب والطين
    إلى طعام معلب وشراب “مُقَوْرَر”
    وبيوت من حديد وإسمنت خال من الروح

    في بيتنا تحتَ القناطر فوقَ حوضِ الخبَّيزة
    المزهِرَة كان لنا نصيبٌ سنويٌ
    في الترحيب بالسنونو… واستضافتِها بيننا

    ومراقبة الأُنثى وهيَ تبني عشَّها باندفاع المحبين
    يعاونُها شريكُها في الأُسرةِ المرتقبَة.. فيحمل
    لها القش والطين بحماسِ المتيَّمينَ العاشقين

    وحوّلتنا لدُمىً آدمية، تتحكّم بمشاعرنا رقائق الكترونية
    نتبادلها بالصّور.. الحنين إلى الماضي يا صديقتي
    يحرك فينا المشاعر ويحمل وداعة للقلوب المتعبة
    لكن لا عودة إلى الوراء أبدا يا صديقتي
    هذه مدنيّة مفروضة والحديث عنها لم يعد يجدي
    خالص مودتي وأغلى أمنياتي لك ولأفراد أسرتك

    الرد
    • شهربان معدي

      “مرشوشة بالعطر يا دار الأفراح..
      فيكِ القُرنفل وفيكِ العطر فواح..

      يا دار لو عدنا كما كُنا..
      لزينك بالورد والطيب والحنا..”
      “دحية فلسطينية”

      ولكن نعم! هكذا حال الدُنيا..
      يا أستاذي الأريب
      ابراهيم يوسف
      شِئنا.. أم أبينا..
      حضارات اندثرت..
      لتزدهر على أنقاضها..؟
      حضارات جديدة..
      بلاد اضمحلت..
      لتعمر على خرابها..؟
      بلاد أُخرى..
      بيوت هُدّمت..
      ليبنى مكانها.. بيوت جديدة..
      تعجّ بالحركة والحياة..

      ولكن هذه النوستالجيا للماضي..
      تؤجج فينا الحنين..
      لرائحة الطرقات القديمة..
      لعطر التراب..
      لعُش السنونوية الذي تحجر..
      والتي علمتنا دروسًا في الإخلاص والوفاء..
      والشراكة الحقيقية..
      هذه النوستالجيا..؟
      وإن كانت لا تُجدي..
      ولكنها تُريحنا كثيرًا..
      وتمنحنا الدفء والإطمئنان..
      وتُعزّز شعورنا بالإمتنان
      لأهل ربونا برموش العين..

      وكم شرّفني مرورك الأثير.
      دومًا بألف خير.

      الرد
      • إبراهيم يوسف

        الفرق بيني وبينك يا عزيزتي؟ كيفية النظر إلى الحاضر والماضي لنتفاهم أو نختلف لا فرق . أنت تنظرين إلى الماضي بعين مأساة من يعذب نفسه حزنا على عزيز افتقده لن يعود، ومن “حقّه” علينا أن نتشح بالسواد حزنا عليه مدى الحياة.

        بينما أتطلع إليه بعين مختلفة. العين التي تردُّني قليلا إلى الوراء، لينبض قلبي بالذكرى ووداعة الحب والحنين ولو للحظات. ثم أقوم إلى الحاسوب لأحييك عبر النت، برسالة تستغرق بعض الثواني. تصوري كم ستتأخر رسالتي يحملها إليك ساعي البريد. والوقت في حساب الزمن له ثمن كبير، فالزمن لن يعود القهقرى إلى الوراء وقد توقفت العجائب برحيل آخر الأنبياء.

        رسالتي مع ساعي البريد لن تصلك قبل أيام. وهكذا أقول لك بسرعة عن طريق الحاسوب صباح الخير، وتصلك تحيتي مع باقة زهر أختارها بكل الألوان. ولو شئتُ أن أرسل لك باقة حقيقية تعبق بالشذا ؟ – وأرجو أن أفعل يوما – سألجأ أيضا إلى الحاسوب، لأطلب بالنت من محل أزهار في الجليل، أن يحمل إلى شهربان الباقة التي أختارها وأدفع ثمنها ببطاقة ائتمان.

        من جانبي لو شئت السفر إلى إيطاليا مثلا ؟ فلن أنتظر قافلة العيس من بيروت إلى روما. بل سأستقل طائرة “نيوتن” تصل بسرعة الصوت، فأختصر المسافة بسرعة لم تكن لتخطر في بال العيس والصحراء. ثم أستفيد بجزء يسير للغاية épsilon من فارق الوقت، فأستمع وأنا على متن الطائرة إلى ناظم الغزالي، يشنف أذني وأذن جارة بجواري، لا تقل ثقافة ولطافة عن شهربان.

        https://www.youtube.com/watch?v=fBTpMzxaHe8

        لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم
        وحملوها وسارت بالدجى الإبل

        يا حادي العيس عرج كي أودعهم
        يا حادي العيس في ترحالك الأجل

        إني على العهد لم أنقض مودتهم
        يا ليت شعري بطول الدهر ما فعلوا

        الرد
        • شهربان معدي

          أستاذي الراقي ابراهيم يوسف
          وصلني تعقيبك الموضوعيّ..
          ليته حادي العيس..
          يمُرُّ بجوار بيتي..
          يحمل لي منديل، أو مرسال..
          عطّرته يدكم الكريمة..
          وحتمًا سيكون من أغلى ما حظيت به من هدايا..؟
          عُمري كله..

          ومع ذلك.. كل يومٍ..؟ أحمد ربي مليون مرة..
          لأن هذا النت عرّفني بحضرتكم..
          وسمح لي بالتواصل معكم..
          وأنا معك في كل ما تقوله عن التقنيات الحديثة التي
          غيّرت وجه “العالم”
          وحوّلتنا لقرية صغيرة..
          لنحظى بخيرات وفيرة، لم تخطر على عقل بشر..
          “نعمة المكيّفات في هذا الحم المُقيت..
          ونعمة الجوّال في هذه العُزلة الإجبارية
          في ظلّ وباء الكورونا المُخيف..

          شُكرًا لسلسبيل كلماتك التي
          أحّيَت..
          أزهار ذبلت منذ أمد طويل..
          في قلبي..

          دومًا بخير.

          الرد
  3. شهربان معدي

    “تحلق روحك في عالم بريء متخم بالحب، ينبض بالعطاء والدفء والصفاء والنقاء والقيم السامية..”
    هذا بعض ما عندك عزيزتي إيناس..
    وكل ما أُحاوله..؟
    وبكل تواضعٍ..
    أن يُشاركني اخوتي القرّاء..
    في وصف حضارة..
    عشناها نحن..
    وحُرم منها أولادنا.. وصغارنا..
    حضارة بدأت تزول من الوجود..
    لتحل محلّها..
    أنماط وأساليب جديدة..
    مُستوردة..
    “ثقافة التيك توك”
    والأنستجرام..
    التي سيطرت على عقول أولادنا…
    دون رقابة أو مسؤولية..
    قتلت فيهم روح الإبداع..
    وحولتهم لمستهلكين من الدرجة الأُولى..
    وأفقدتهم..؟
    حتى التواصل مع أقرب الناس إليهم..
    وخسروا هذه اللحظات الباذخة..
    التي نعمنا “نحن” بها..
    برفقة الأهل والخلاّن..

    وكان والدي يحب أرضه..
    وما زلت افتقد لرائحة الأرض العالقة..
    بأذيال ثيابه..
    لرائحة القندول التي أدمت راحتيه..
    لعطر الحبق..
    وزهر الليمون في حاكورة بيتنا..
    التي اختفت للأبد..

    نعم كل شيء تغيّر بعد رحيله..
    ولم تبق لي إلاّ هذه الكلمات..
    تذكّرني بفضله الكبير..

    شكرًا لك صديقتي..
    ولأسرة السنابل الموقّرة التي منحتنا هذه المساحة الخضراء..
    لننثر مواجعنا وهواجسنا..
    سنة خير وسلام وصحة وعافية..
    لجميع اخوتي القرّاء والكتّاب في هذا الموقع الأثير.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.