فندق المشاكل

بواسطة | 7 يناير 2018 | فنون و سينما | 0 تعليقات

كوميديا سوداء شاعرية و”واقعية” (مع بعد سيريالي ساخر) وتلخص مأساة اللاجئين العالمية حيث لا حلول ولا “أمل”!

يستعرض هذا الشريط الشيق بمهارة سردية انسيابية حياة المهاجرين عبر الحدود، في اجواء منضبطة داخل بناية في بروكسيل، ويدخلنا لمتاهة لا نهاية لها بلا خصائص ولا مستقبل…فالبطل الجذاب “بيبول” لا يريد ان يعترف بالمأزق الذي وجد نفسه داخله، ولكن وصول “ليديا” الفتاة الروسية الجميلة يحدث فرقا، ولكن بلا امل، وخاصة انه تعود على وضعه “المعلق”، ولكنه شهر “ديسيمبر” (نفسه شهر الشتاء ورأس السنة)، وهو نفسه شهر الحمل التاسع الأخير لصديقة ليديا “مارتينا، التي تعرضت أثناء رحلتهما للاغتصاب، ولكن عندما يبدو الأمر برمته ميؤوس منه، فتقتل الحامل وليدها فور ولادته ويشتق الأفريقي اليائس نفسه بأسلاك الكهرباء المتدلية، تصبح عندئذ المساعدة ممكنة، فتطل قصة عيد الميلاد، التي تنتهي برقصة الأمل الصاخبة الجميلة التي يشارك الجميع فيها (وحتى العربي المتشدد دينيا فيتعاون بتوزيع لمبات “احتفال رأس السنة” بصبر ومهارة)…تماما كما ينتهي فيلم زوربا الشهير بالرقصة المميزة التي يبدع بادائها الراحل “انطوني كوين” بعد أن فشلت كافة مشاريعه وأفلس في القرية اليونانية البائسة…

هذا الفيلم المشوق مشتق من رواية ناجحة للهولندي “لديميتري فيرهوست” الذي قضى عدة ايام صعبة في مركز اللجؤ البلجيكي هذا، وقاده لكتابة قصة هذا الفيلم اللافت الذي يتعرض لمشاكل واحباطات طالبي اللجؤ من الجنسيات المتعددة ومن زوايا جديدة فريدة، أما الراوي في القصة فهو الممثل الفلسطيني الأصل “حيث ظهر هنا باسم بيبول ماسلي” الذي نجح بتقديم صورا ومشاهد مثيرة للاهتمام لنمط الحياة الواقعي في المركز: مخترقا “كودات” هذا المجتمع الغامض المغلق وكاشفا رموزه وانماط حياة القاطنين والمشرفين على حد سواء.

*يعاني السجناء القادمين من بلدان مختلفة من قلة الموارد، حتى ان بعضهم يقايض الجنس بالسجائر، كما يوحدهم التناقض، وهم الناجين من الفظائع وعدم الاستقرار في بلدانهم، وربما يستحق بعضهم اللجؤ لتحسين ظروف حياتهم البائسة، ولكن الأمر ليس هينا، كما انهم يعانون أحيانا من الملل والعواطف المحتدمة ونفاذ الصبر وفقدان الأمل.

*لعل “ماسلي” هو الشخص الوحيد الذي يدرك حقيقة صعوبة حصولهم على الحق باللجؤ، حيث يعيش معظمهم على آمال كاذبة او يخطط بعضهم للهروب من المركز اذا ما رفضت طلباتهم نهائيا. يكمن حلم بعضهم في الوصول الى بريطانيا، على الرغم من انهم يعرفون أن العديد من قبلهمن حاولوا هذا الطريق وفقدوا حياتهم.

*لا أحد حقا سعيد في الحياة في هذا المركز، ولكنهم يخفون حقيقة معاناتهم ومشاكلهم. يصف “ماسلي” الروتين اليومي في سخرية حيادية، حيث “خيبة الأمل والاذلال”، وحتى بعض المحاولات الفاشلة للاندماج مع العالم الخارجي تنتهي بفكاهة وسخرية تصل لحدود التهريج احيانا، وهي قد تكون وسيلة مؤقتة للتنفيس، ولكنها تترك ندوبا من “المرارة واليأس” في حالتهم المستعصية، مثل حالة الشخص (الشاب الباكستاني) الذي يسعى جاهدا للزواج من أي فتاة بلجيكية مرشحة لكي يظفر بالاقامة، حيث يقوم بزيارات فاشلة لمكاتب الزواج، ويمارس سلوكيات “تهريجية” في الشوارع وفي نوادي الرقص الليلية ولكنه يفشل.

*يتعاطف كاتب الرواية “ديميتري فيرهولست” تماما مع هؤلاء الناس في محنتهم، بل يبدو وكأنه يتفهم وجهة نظرهم الغير مستوعبة للمجتمع الغربي، ويستخدم هذه المفاهيم كمرآة لرؤية أنفسهم من خلال أعين الغرباء.

*يلعب الممثل الفلسطيني الأمريكي “طارق حلبي” دور “بيبول”، مع تسعة ممثلين آخرين بالأدوار الرئيسية والداعمة، منهم “ايفجنيا برنديس وميشيل كابيير وكارلو فيرانتي”، وهو من اخراج وكتابة “مانو ريشي وستيف هاوس”، ويستند كما سبق ونوهت لقصة واقعية نتجت عن زيارة الكاتب للمركز في العام 2001، وقراءة “مانو ريشي” لمجموعة من المقالات الصحفية ذات العلاقة، والمخرج معروف بأعمالة الوثائقية اللافتة طوال عمله السينمائي لحوالي 25 عاما، وهذا اول عمل روائي له مع نكهة وثائقية-واقعية واضحة بعد ان نجح باستيعاب رواية “فيرهوست” السيريالية الاسلوب التي صدرت في العام 2003

*هذا من الأفلام اللافتة التي تعير المكان اهمية خاصة، فالمبنى فريد ومميز بطريقة بناءه، ويعد شخصية محورية في الفيلم، وقد صمم في ستينات القرن الفائت، ويمثل ربما رمزا “للنصب التذكاري للرأسمالية الصناعية”، وقد استخدم المخرج بذكاء البعد المكاني وجعلنا كمشاهدين طرفا في الأحداث الجارية،  فمزج المكاتب والهيكل الجامد مع محنة ومعاناة طالبي اللجؤ، حيث نرى التحركات من غرفة لغرفة وعبر الممرات، ونعاين بطرافة مجموعة بائسة وهم يجرون بمشقة شجرة عيد ميلاد ضخمة عبر الأروقة، وهم تائهين لا يعرفون أين يضعونها، كما نرى آخرين من النزلاء والموظفين “المحبوسين” هم يمشون بسرعة عبر الممرات الطويلة والمساحات المفتوحة الفارغة بسخاء ، وكأنهم يعانون من “وسواس قهري”، لنشاهد الكاميرا وهي تصورهم كما لو أنهم يركضون في متاهة, وربما المقصود هنا اشعارنا بذلك مجازيا. حيث يقول المخرج النبيه: فندق “بروبلمسكي” هو عينه ذات المكان الذي لا تبدأ فيه الحياة ولا تنتهي، كما ان الموظفين انفسهم يتماثلون تماما مع حالة “طالبي اللجؤ”، فهم الناجون وهؤلاء اللاجئون ضمن نظام بيروقراطي كبير صارم وخانق كالسجن يعيش الجميع داخله، والكل يحاول الهروب او التعايش والاستفادة من وجوده داخله.

*راوي هادىء ومراقب محايد:

كما يفعل “بيبول” اللاجىء، وهو لا يعرف هويته لأنه وجد في مرحاض عام في مطار بروكسيل، مع فقدان تام للذاكرة وبلا هوية شخصية، وهو لا يعرف من هو ومن اين اتى، ويعتبر مثالا لأزمة هوية اللاجئين. لعب الدور من قبل “الراقص” الفلسطيني الأمريكي المقيم في بروكسيل، ويملك تاثيرا كبيرا على معظم السكان الاخرين المقيمين في المبنى، وهو محط ثقتهم واسرارهم، بالاضافة لمهاراتهه في الترجمة والتواصل الاجتماعي، ويتميز بالهدؤ والجاذبية الاسرة، في أجواء حافلة بالتوتر النفسي والوجودي، حيث يتمنى الكل الحصول على تصريحات اقامة في بلجيكا الاهو فيكاد يبدو قانعا ومرتاحا بوضعه ووظيفته في المركز، ومع ذلك فهو يقع في حب رومانسي جارف مع الروسية الجميلة “ليديا”، التي تريد المغادرة بأي شكل مع رفيقتها الى لندن وتدعوه لمصاحبتها. وأحدهم يعلق ساخرا على وضعه الخاص قائلا: لا أحد يعرف من اين اتى، لذا فهم لا يستطيعون ارساله لبلد محدد!

رأي المخرج “مانور ريشي”:

من الصعب لجيلي أن يفهم سبب هروب كل هؤلاء اللاجئين من بلادهم، ويعلق على اداء الممثل الفلسطيني “حلبي” قائلا: انه هناك وليس هناك في نفس الوقت، انه ليس ممثلا بل شخصا “شبحيا” مأخوذ في المركز الذي يعتبره بمثابة وطنه حيث يبدو وكأن جذوره قد نمت في هذا المكان،  انه شخص يتمتع بالمهارات المهنية والهدؤ والجاذبية، وكانه يسد النقص “الانساني” اللازم …وقد تحدث المخرج كيف اضطر والداه لترك بلجيكا خلال الحرب العالمية الثانية واللجؤ لفرنسا، واستطرد قائلا “انه من الصعب على ابناء جيلي ان يفهموا سبب لجؤ هؤلاء النازحين، ولكني أفهم شخصيا سبب رغبتهم باللجؤ، ويجب علينا ان نتاقلم مع ذلك، فهذا عالم جديد علينا ان نعيش فيه”. ويبدو ذلك الان أكثر ضرورة مع استفحال ازمات اللاجئين والنزوح  بسبب كثرة الأزمات والصراعات الطاحنة هنا وهناك (مثل بلدان الربيع العربي وسوريا تحديدا وبورما حاليا). وهو يوجه رسالة واضحة مفادها: لا توجد حلول فلا تحاولوا ايجادها فهي غير واقعية وسيبقى الأمر على هذا المنوال!

الفيلم الشيق الفريد هذا يتناول عدة شخصيات منها المحشورين في “مقطورة بندورة” عابرة للحدود والذي يصل اخيرا لوجهته البلجيكية، وتلك التي تلد وتتخلص بقسوة من وليدها لتصل الى وجهتها اللندنية، وذاك الأفريقي المسكين الذي يئس من بيروقراطية اجراءآت اللجؤ والاقامة وانتحر أخيرا بأسلاك لمبات عيد الميلاد، ثم ذاك العربي السلفي المتشدد الذي يطلق زوجته المنقبة لأنها تجرأت ونزلت الى بركة السباحة في المجمع او ذاك “الباكستاني” الذي يطوف في الشوارع ونوادي الرقص باحثا بلا جدوى عن”زوجة بلجيكية تقبل به” للحصول على اوراق الاقامة، ولا يمكن أخيرا نسيان كيف ينبثق الأمل من الرقصة التفاعلية الجميلة التي شارك فيها الجميع في آخر الشريط.

 

م. مهند النابلسي كاتب وباحث وناقد سينمائي جرىء وموضوعي وهو "اردني من أصل فلسطيني" وعضو رابطة الكتاب الاردنيين والاتحاد العربي لكتاب الانترنت. عمان – الاردن Mmman98@hotmail.com

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.