كانت الدراما العربية في هذا الموسم (رمضان 2020) زاخرة بالمناقشة والتحليل والأخذ والرد، واستهلك بعضها كمسلسل “أم هارون” ومسلسل “مخرج 7” الكثير من المناقشات، لكنني لم أحفل بذينك العملين لا من قريب ولا من بعيد، تابعت مقابلة تلفزيونية منشورة لسيدة يهودية قادمة من البصرة في العراق إلى البحرين، تدعى “أم جان”، ويقال إن “أم هارون” هي تجسيد لشخصيتها. المقابلة التلفزيونية كانت عام 1977، وبدت فيها “أم جان” امرأة منكسرة ذات تاريخ طويل من المعاناة، وكان عمرها حين بُثت المقابلة ثلاثة وسبعين عاما، كل ما كانت تتمناه أن يكون لها بيت لا تدفع أجرته، وسيكون بإمكان من يمنحها إياه استعادته بعد أن تموت. كما أثارتني حلقة من برنامج “أبعاد” الذي تبثه قناة “الغد” الفضائية، وحاور مقدم البرنامج مجموعة من الضيوف لمناقشة الدراما العربية وأبعاد التطبيع فيها، وأتوا بطبيعة الحال على مسلسل “أم هارون” ومسلسل “مخرج 7″، وتم مناقشة أسئلة حول التطبيع مع كيان الاحتلال في المسلسلين وبعض مظاهره على أرض الواقع. خرجت من الحلقة بلا شيء محدد، وبقي الأمر غائما.
قبل الخروج من هذين المسلسلين في هذه الجردة من الحساب، أيقنت أن الدور كبير للدراما في التمهيد أو الترسيخ للأفكار السياسية، لاسيما أن المسلسلين عرضا على قنوات (MBC) السعودية، إذ ليس غريبا والحالة السياسية العربية المتردية أن يتم إنتاج مثل هذه المسلسلات وعرضها، وأن يكون لها مشاهدون كثيرون. ربحت فيه الممثلة الكويتية حياة الفهد بطلة مسلسل “أم هارون” الكثير من التعليقات السلبية وزادت فاتورتها في الخسارة بعد مواقفها من الوافدين ومطالبتها بترحيل المصابين منهم بكورونا وطردهم خارج الكويت، وربح ناصر القصبي بطل مسلسل “مخرج 7” أيضاً الكثير من الأعداء.
إن هذه الحالة السياسية والمناخ المعادي للفلسطيني والحق في أرضه هي السبب في أن المشاهد العربي لم يعد يرى أعمالا درامية تناصر قضيته المصيرية في الحرية والخلاص من المحتل، على غرار مسلسل “التغريبة الفلسطينية”، وقد أشار كل من الروائي إبراهيم نصر الله والدكتور وليد سيف في حوارات معهما إلى رفض كثير من المنتجين العرب تنفيذ سيناريوهات لمسلسلات تدعم القضية الفلسطينية، واحد من هذه السيناريوهات كما أشار نصر الله مأخوذ عن إحدى رواياته. في ظل هذه الأجواء ستنتعش الدراما التطبيعية أو على الأقل الساكتة عن الحق، لتكون هي الشيطان الأخرس، مهما كانت متقنة فنياً.
هذان كانا أبرز مسلسلين أخذا أبعادا سياسية من المناقشة، ولكن ثمة مسلسلات أخرى ربما كان الالتفات إليها أقل، على اعتبار أن السياسة أكثر طفوّا على السطح، وتستحوذ السياسة على التفكير الجماهيري والوعي القومي العربي. مع أن هذا الوعي أكثر عرضة للتزييف والاستهبال، ولم يعد مؤثرا إلا في شتائم الفيسبوك وتويتر، كأنه أخذ يؤسس لمصطلحات جديد من مثل “الجهاد الإلكتروني” أو “المقاومة الافتراضية”.
المسلسلات الأخرى كانت بالنسبة لي أهم في مناقشة الناحيتين التربوية والاجتماعية، فمسلسل “شغف” كان عملا دراميا مثيرا جدا، وخاصة في الناحية الثقافية، إذ يكتشف المشاهد العربي أن ثمة استغلالا في الأوساط الثقافية، إذ يقع أصحاب المواهب الحقيقية في فخ الاستغلال، فالفنان “طارق” تستولي على موهبته امرأتان، فتستغلانه أبشع استغلال، لتستحوذ الأولى “امتثال” على جهوده عن طيب خاطر وهو على قيد الحياة، فيكتب مقالات وأبحاثا لتنشرها باسمها، بما في ذلك رسالة “الماجستير”. والشيء نفسه تقوم به دانة فتستولي على أعمال طارق ومجموعة من لوحاته واسكتشاته بعد وفاته لتوقعها باسمها لتغدو فنانة معروفة في كل الأوساط الفنية والثقافية العربية. ثم تعثر دانة على فنان آخر يدعى فيصل، إنسان بسيط مختلف عن طارق الذي ظهر بتعدد علاقاته النسائية، يمتاز فيصل هذا بأنه فنان موهوب، تستغله دانة فيرسم لوحاته وتوقعها باسمها. وهكذا تتم في الأوساط الفنية سرقت مجهود الآخرين تحت دعاوي الحبّ والشغف والمال.
هذا المسلسل مهم جدا وهو يضيء على قضية التزوير الثقافي وصناعة الأسماء الكبيرة، وقد شاعت مثل هذه القضايا كثيرا في أوساط المثقفين العرب، فثمة نساء جميلات أو ذات ثراء يصبحن مثقفات ومعروفات؛ لأن ثمة مثقفا أو كاتبا يقوم بكتابة الكتب وتأليفها، وما على تلك النساء إلا وضع أسمائهن على تلك الأعمال. إن المساءلة الأخلاقية هنا تقع على الطرفين معا، وقد التبس الأمر، فأيهما هو الجاني وأيهما هو المجني عليه. أظن أن كليهما مسؤول عن هذا الفعل، بل ربما الكاتب الحقيقي هو المجرم الحقيقي وليس الطرف الثاني، وخاصة في حالة فيصل، أو حالة طارق وهو على قيد الحياة.
لقد غدت الأوساط الثقافية والفنية والأكاديمية تعاني من عمليات تزوير حقيقية، وانتشرت فضائح كبيرة في هذه الأوساط، لأطروحات علمية وأبحاثٍ وكتب وروايات لم يكتبها إلا أشخاص آخرون لتسجل بأسماء نساء جميلات عن طيب خاطر، كنّ على استعداد لدفع ثمن تلك الأعمال، إما مالا أو “ممارسة جنس” أو علاقات مصلحية آنية، تدفع فيها المرأة جسدها أو مالها أو الاثنين معا مقابل قصيدة أو مقال أو رواية أو أطروحة علمية، وفي السنوات الأخيرة ظهر في الإعلام الكثير من تلك الفضائح، وتم سحب جوائز وألقاب جامعية وسحب شهادات وعضويات من روابط ومنتديات واتحادات فنية وأدبية. وكل ذلك يتم تحت باب مغرٍ هو “الشغف”، فكأن هذا الشغف في الفن والأدب يؤهل الواقعين تحت تأثيره ليكونوا لصوصاً ومثقفين مزيفيين.
ثمة مسلسلات أخرى خليجية وعربية يرتفع فيها مستوى العنف كثيرا، وزادت حالات القتل فيها بطريقة مثيرة للشفقة الفنية، من مثل مسلسل “هيا وبناتها”، و”الكون في كفة”، ومسلسل “البرنس”، فقد كان القتل فيها سهلا للغاية، وغابت الدولة وهي التي من المفترض أن تكون حارسة لأمن المجتمع، ليصل المشاهد إلى قناعة أنه لا حاجة للعربي لأن تكون له دولة ترعى شؤونه، ولا أجهزة أمنية تسهر على راحته، فباستطاعة أي فرد أن يقوم بأي عمل من قتل وسلب وتجارة مخدرات ولا تتم محاسبته، وكأن الفرد هو نفسه مكلف بالبحث عن حقه وإحقاق الحق والعدالة. لم يكن ظهور رموز الدولة في تلك المسلسلات سوى أشباح لإكمال المشاهد، وسرعان ما يختفي أثرها.
لم يكن مفهوم الدولة هو الغائب عن فلسفة هذه الأعمال وأفكار كتابها، بل فكرة العدالة ذاتها، فقد عملت تلك المسلسلات على تحقيق نوع من العدالة المتوهمة التي تحوم في فكر البطل ليحققها على هواه، وكأنه ينفذ العدالة الإلهية، ونسي المؤلفون أن عدالة الله تختلف عن عدالة البشر. هنا ظهر أنه لا حاجة للعدل الإلهي، فالعدل فقط هو بيد من ظُلم وباستطاعته الانتقام لنفسه. لا أقترح بديلا بالطبع، ولكن الأمر لم يكن مقنعا ألبتة.
لقد وقعت تلك الأعمال التي حفلت بحالات العنف والقتل والشر في مآزق فنية لافتة، فكيف يتحرك الشر على مدى 29 حلقة ونصف، ويتقلص الخير في مدة نصف ساعة أو أقل؟ فهل هذه النصف ساعة كفيلة بمحو الأثر السيئ للعنف في نفسية المشاهد، وتصحيح مساره؟ لقد لفت انتباهي أن الشر ذو عقلية حافلة بالتفاصيل المتقنة بينما حالات الخير تتم بعجالة ودون أسباب عقلية ومصادفات مبررة فنيا، لقد استولى الشر كل الشر على التفكير بينما جاء الخير كالقدر الذي لا بد منه لينهي “الحفلة الدرامية”. إن مثل هذه الأعمال يعزز في العقلية العربية أن أصل الإنسان الشر، وكأنها جاءت لتؤكد أفكار الفلاسفة الذين لا يرون في الإنسان إلا أنه وحش ضارٍ، وإلا كيف سيفسر المشاهد أن فردا واحدا خيّرا يجابه مجموعة من الأخوة الأشرار كما هو الحال في مسلسل “البرنس”؟
عدا هذه الدراما التعيسة كان هناك برنامج “رامز مجنون رسمي”، هذا البرنامج البائس جدا، وغير المسلي، ولا يقوم إلا على إهانة الضيوف وابتزازهم بطريقة مُهينة، وكل ذلك تحت حجة واهية تُدعى الفن، ولكنّ رامزاً هذا ليس وحده هو المجنون، بل ربما كان ضيوفه أكثر جنونا منه، ويستحقون منه ما لاقوا من تعنيف وإهانات ومقالب غير سعيدة ولا لذيذة، فهل كان المال الذي سيأخذه كل ضيف أهم من “هيبة” الفنان بوصفه شخصية عامة، لقد أهان رامز وضيوفه الفن ورسائله ووسائله على حد سواء، وصار الطرفان واقعيْن تحت طائلة المساءلة الأخلاقية والقانونية.
إن لهذا البرنامج أبعاداً تربوية غاية في الخطورة عدا ما فيه من عنف واستغلال واستهبال وتهريج مقيت، إذ إنه يساهم بوعي، أو ربما بغير وعي، بتقويض القيم الاجتماعية والتربوية، وأهمها الاحترام المتبادل بين الناس. فكيف يتوقع الفلاسفة والمفكرون والساسة أن يكون مستقبل المواطن العربي وهو يتربّى يوميا على هذه الأعمال الهابطة التي ستظل تعاد على مدار السنة، ليستطيع من فاته الحضور أن يحظى بمشاهدتها؟
بعد كل ذلك فإنه لمن الغباء أن يسأل التربويون والمفكرون والفلاسفة عن أسباب تفشي العنف في المدارس والجامعات والأُسَر في المجتمعات العربية، بل يجب التفكير على نحو أكثر صرامة بأن تكون تلك المسلسلات والبرامج تحت إشراف تربويين وفلاسفة وسياسيين إن أرادوا الخير لهذه المجتمعات، فبدلا من أن تصبح الدراما أداة لتعليم العنف واستسهاله تصبح أداة للتهذيب وإراحة النفس من متاعبها. ألا يكفي المواطن العربي المغلوب على أمره ما يعانيه من مكابدة وضغط أعصاب في الحياة ومتاعب الحصول على لقمة عيشه لتأتي الدراما لتزيد من أعبائه النفسية؟ حتّى في الدراما لا يجد راحته، فأيّة قسوة أشد من هذا الذي جرى أيها الدراميون؟ فالرحمة حلوة والله!
أيّار 2020
أستاذ فراس
ألا ترى أن القاريء أو المشاهد هو من يركض ويسعى وراء هذه المسلسات الهابطة والفن والأدب الرخيص ؟
وكأنه يريد الهروب من واقعه وحياته البائسة العفنة تحت ظل أنظمة هشة واستبداد سياسي وفساد مالي ..
وكأن الكاتب أو الأديب هو المخلص الأعظم له من الجحيم
يلبي احتياجاته الثقافية ورغباته الأدبية والنفسية ، وغرائزه الجنسية تحت غطاء التسلية والمتعة وتعزيز الرفاهية..
إلى أن وصل الحال إلى الإنفلات الفني الذي به تهشمت به معظم القيم والمفاهيم والتقاليد الإجتماعية والفكرية والفنية ..
فهل يمكن الوصول إلى حل ؟