الكنز التليد

بواسطة | 22 سبتمبر 2018 | قصص قصيرة | 2 تعليقات

الكنز التليد

قصة للأطفال

 

حفيديَ الغالي..؟ اقتربْ قليلا مني وتعالَ اجلسْ في حضني. سأطعمك من هذا الرطب الذي جنيته قبل قليل، وأحكي لك حكاية أبي صالح والكنز التَّليد..؟ ويشد الطفل منظر الرطب بلون الياقوت الأحمر والعقيق الأصفر في طبق الجدَّة، ويتردد في قلبه صدى الحكاية الجديدة عن أبي صالح وكنزه، التي لم يكن قد سمعها من جدته قبل اليوم.

لم يكن أبو صالح رجلا مشهورا، وكادَ من لم يسمع به خارج نطاق القرية المتواضعة، لولا قلة من سكان القرى المجاورة ممن يعرفونه، فلم يكن وجيها من وجهاء القرية، فلا يقصده الناس لقضاء حوائجهم والفصل في نزاعاتهم، أو شجاعا لا يشق له غبار في ساحات الخصومه.

لا.. ولا كان مضيافا كريما “يطعم الذئب” على مائدته. بل كان رجلا بسيطا يعيش وحيدا على أطراف القرية في بيت متواضع من الطين، بعدما رحلت عنه أم صالح زوجته ورفيقة عمره، ورحل معها طفلها، بفعل الفقر والمرض وقلة الحيلة.

لكن الله مَنَّ على الرجل وأكرمه بعافية وفيرة وإرادة طيبة، وإيمان كبير بقدرة ربه على قضاء حوائج الناس ورعاية أمورهم، فكان يتمتع بفيض من الصبر الجميل؛ لا تجدْه إلاّ في فلاح نذر نفسه للعمل في الأرض من أجل الآخرين. ينتظر رزقه وفيض الخير عليه من مواسم حقله، أو كصياد رمى شباكه في البحر، وراح ينتظر ما يجود به من قوت عياله، أو راع ومعه كلبه يجوب البقاع بقطيعه بين الفيافي وعلى المنحدرات والسهول.. ثم يأوي في المساء إلى كوخه الحقير، آمنا مطمئنا إلى سلام الدنيا ووداعة الزمن الطيّب.

أبو صالح كان يشعر أيضا بالسلام، بالرغم مما ألمَّ به وبزوجته وطفله، فيستيقظ  قبل طلوع الشمس في كل يوم، يخضُّ لبن شاته القليل، ويهيئ لنفسه رغيفا قفارا مما يجد، ثم تراه في زاوية من زوايا مسجد القرية يؤدي صلاة الفجر مع الجماعة، حتى إذا ما أنقضت الصلاة غادر سريعا إلى حقله ومعه عدة عمله والرغيف.

وفي عام من تلك الأعوام المجدبة القاحلة، التي ألمت بالقرية والسكان، حينما لم تجُد السماء بمائها، وجفت الأرض بآبارها، ويبس زرعها، وأصاب الناسَ فقرٌ شديد..؟ والفقر يهون ياولدي دون الحرب والموت والقهر والجوع، وتداعي معظم سبل الحياة والجور العظيم. إنها الحرب تعصف بالبلاد والعباد، وتتحكم بغرائز البشر، وتجعل منهم ظالما ومظلوما ويغدو الغنىي فقيرا.  

وهكذا خلال ذلك العام الطويل نضبت المؤن من البيوت، بفعل القحط والحرب وجفاف السماء من المطر والغيوم، واختفى من البيوت التمر والسمن والحبوب، ولم يبقَ إلاّ تمرات نادرة عجاف محفوظة في صرر، تخفينها الأمهات لتضعنها في أفواه أطفالهن ممن لا يتحملون مهانة الحرب والجوع. ذبحت البهائم كلها في ذلك العام المقيت، وأكل الناس كل شيء حتى لحاء الشجر، وأقبل موسم الزراعة بلا بذور يزرعونها في الحقول .

خرج أبو صالح هائما على وجهه كالآخرين، وقد بات ليلته على الطوى، وهو يشد حزامه على بطنه يواجه به فعل الحرمان والجوع.. وهكذا راح الرجل كبقية أهل القرية يبحث عما يعوله ويسكت إلحاح بطنه. كان يجوس الأرض منكس الرأس خائر القوى يائسا إلاّ من رحمة ربه، حينما مرَّ بربوة صغيرة في ضاحية القرية، حيث رأى جيشا من النمل يجوب المكان، وقد تحلقت بعض النملات حول حبة قمح يدفعنها أمامهن.

فما كان من أبي صالح إلا أن أزاح كومة التراب التي ئؤدي إلى مسكن النمل، وراح يحفر بيديه كمن وجد كنزا عظيما، ليظهر أمامه فيض من حبوب القمح الرائعة، التي قامت النملات بتخزينها في بطن الأرض مؤونة لهن في فصل الشتاء. فابتهج الرجل ودغدغ الأمل مشاعره من جديد، وراح يحفر أكثر فأكثر ويجمع ما يجده من الحبوب، فيفيض القمح عن كفيه ولم يعد يتسع له المنديل .

وهكذا أسرع أبو صالح إلى حقله مرة أخرى وهو يحمل كنزه بين بيديه، وأملٌ للبقاء في صراعه مع الحياة بدأ يراود قلبه من جديد، فشمَّر عن ساعديه وبدأ ينثر في الأرض، بعناية واهتمام محتوى القمح في المنديل .. وتوالت الأيام والأسابيع والشهور، وأبو صالح يستيقظ في قلب الليل هلعا من بوار موسمه، حينما اغتصب بذوره من قوت قوم لا “يستحقون” إلا المحبة والاحترام عبر حكايا تاريخ النمل الطويل.

كان في كل صباح يزور حقله ويرى الحبوب، تنمو وتكبر يوما بعد يوم والسماء تجود على حقله بمطر سخيٍّ، سخره الله رحمة بعباده على السواء من المتقين والعاصين الجاحدين. وهكذا أخضرَّت سنابل القمح ونمت، وتحولت مع مرور الأيام إلى اللون الأصفر، كلون الذهب الخالص في خزائن الملوك

كان الموسم متواضعا وبسيطا. لكن الحياة والأمل عاد يراود النفوس اليائسة من جديد. وهكذا كان أبوصالح يعمل في حقله من الشروق إلى الغروب، بعزم وصبر وثبات وأمل وتفان منقطع النظير، وكان كلما خلد للراحة قليلا بعد موسم حصاده..؟ تذكر دَيْنَه وفضل النمل عليه، ليعاود عمله في دق السنابل من جديد.

ظهرت له تباعا حفنات القمح، فجمعها ووضعها في كيس كبير بجانبه، ثم مضى نحو ربوة النمل فترك للنمل حفنة من الحبات تزيد عن ملء راحيته، وراح يراقبهن كيف يخرجن بنشاط، ويتحلقن حول حبات القمح ثم ينقلنها إلى الداخل  مؤونة للشتاء وليالي البرد الطويل.

كل عام وأنت بخير يا قرة عيني.. وحبة قلبي. قل لي هل أعجبتك حكاية أبي صالح عن لقمة العيش..؟ وعن زمن الحرب، وعن النمل وكنز القمح التليد، وهذا الخير المبارك على مر العصور..؟

[ratings]

الكاتبة أشواق عمر

2 التعليقات

  1. إبراهيم يوسف

    وَقَفَ الهُدهُدُ في بابِ سُلَيمانَ بِذِلَّة
    قالَ: يا مَولايَ كُن لي عيشَتي صارَتْ مُمِلَّة
    متُّ مِن حَبَّةِ بُرٍّ أَحدَثَتْ في الصَدرِ غُلَّة
    لا مِياهُ النيلِ ترويها وَلا أَمْواهُ دِجلَة

    حكاية أبي صالح يا صديقتي..؟ ذكَّرتني بحوار الهدهد مع النَّبيّ سليمان، على لسان أمير الشعراء شوقي – صاحبُ النَّفَسِ الخلّاق بالسَّردِ “القصصيّ” البديع – حينما يقفُ الهدهدُ ذليلاً على بابِ سليمان..؟ يشكو حبة قمحٍ عَلِقَتْ في حلقه، وأحدثتْ في صدره غصَّة وضيقاً شديداً، حتى كادتِ الحبَّة تكتمُ أنفاسَه وتقضي على حياته. فلا نهرُ النِّيل ولا أمواهُ دجلة كافية، لتروي ظمأه وتساعدَ حبّة القمح في الانزلاق إلى حوصلته. واذا ما استمرَّ على هذه الحالة..؟ فهو مقتولٌ بلا محالة. ويلتفتُ النبيُّ سليمان يوضحُ لمن كانوا حوله، كيف تُعَشِّشُ نارُ الإثم في صدرِ الهدهد، بفعلِ اختلاسه حبة القمح من بيت المسكينة النملة. ويكمل شوقي فيقول:

    فَأَشارَ السَيِّدُ العالي إِلى مَن كانَ حَولَه
    قَد جَنى الهُدهُدُ ذَنباً وَأَتى في اللُؤمِ فَعلَه
    تِلكَ نارُ الإِثمِ في الصَدرِ وَذي الشَكوى تَعِلَّة
    ما أَرى الحَبَّةَ إِلّا سُرِقَت مِن بَيتِ نَملَة
    إِنَّ لِلظالِمِ صَدراً يَشتَكي مِن غَيرِ عِلَّة

    إِنَّ لِلظالِمِ صَدراً يَشتَكي مِن غَيرِ عِلَّة..؟ تلك هي كل الحكاية وخلاصتها يا أشواق. وهكذا فصديقنا أبو صالح حرام أن يختلس قوتَ النّمل..! لتسلي أطفالك يا عزيزتي قبل النوم.. وحسب.!؟ ولو لم يكن ما فعلتِه ليس بعيداً كثيراً من “قسوتي وتعسُّفي”..!؟ حينما توسَّلتُ “ماء النار” أو “الأسيد كلوريدريك”..؟ للنيل من جرذ لئيم أفسد بمخلفاته الكريهة مستودع الحبوب في مطحنتي.. ولعل عذري وأسبابي في حكايتي “مقبولة” أكثر..!؟

    سامحنا الله جميعا على استهتارنا بمخلوقات الله مهما تكن أحوالها وطبائعها. وما حكاية شوقي والهدهد والنبي سليمان..؟ إلا درسا بليغا وإرشادا يحتمل الدعابة أيضا، حينما لم يكن الهدهد يلتمس لنفسه الرزق الحلال..! ليسلب النملة حبة القمح، فيضيق بها صدره ويشتكي من غير علة أو.. مرض.

    وتبقى الإشارة الأخيرة إلى حكاية لافونتين الكاتب الفرنسي التَّعيس.. عن الجندب والنملة، التي لهجت بها الدُّنيا بكل لغات أهل الأرض..؟ وقد برَّأتُ من جانبي ساحة النملة وذمَّتها من كل عار وعيب. النملة هذا الكائن المجتهد الذي يستحق الحياة بجدارة عالية..؟ فحاولت أن أنصفَها بالحق وأردَّ لها بعض اعتبارها ولو بعد دهر من التشهير والسمعة المستباحة.. ثم أكتب نصا جديدا بنفس السياق، ربما ينشر في غضون الأيام القليلة القادمة.

    خالص مودتي وأمنياتي بمزيد من الكتابة.. والنجاح.

    الرد
    • أشواق

      الأستاذ الفاضل إبراهيم يوسف
      أشكر لك مرورك الكريم، و الذي في كل مرة يثري نصي ومخيلتي، ويدفعني للمزيد من الكتابة.
      تعليقك على نصي و على النصوص الأخرى قوي وملهم، يفتح حوارا ادبيا وأحيانا علميا رياضيا، وربما يكون أهم عندي من النص نفسه.
      هنيئا لي وهنيئا للقراء وجودك بيننا.
      أما وأني سرقت حبات القمح من النمل بيد أبي صالح، كي أسلي أطفالي قبل النوم فهي الحقيقة!
      وإلا ..فقل لي ماذا ستفعل بطفلة لا تصحو باكرا لتذهب إلى روضة الأطفال إلا “برشوة” هذه الرشوة ثلاث حكايات كل ليلة! من أين لي مخيلة خصبة بعد تعب النهار؟! وقد تعبت من تكرار حكاية الجندب و النملة..
      الحقيقة أني سمعت القصة من الجدة، ولا أجمل من سماع القصص في أحضان الأمهات وتحت أضلع الجدات، ثم نقلها إلى الجيل القادم محملة أيضا بالحب و الدفء والحنان.

      وفي الختام شكرا لك على كل شيء..كل شيء يا أستاذي الكبير

      الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.