وجوه الاحتفاء الشعري في مهرجان الشعر العربي- الدورة الثالثة
فراس حج محمد/ فلسطين
لقد تابعت- افترضيا- بشغف على مدى أربعة أيام مهرجان الشعر العربي “الدورة الثالثة” الذي أقامته “الجمعية الدولية للشعراء العرب” على مسرح كلية الإلهيات في جامعة مرمرة في الشق الأسيوي من مدينة إسطنبول في تركيا، وأطلق على هذه الدورة اسم الشاعر الليبي الراحل عبد المولى البغدادي. واستمعت إلى شعرائه، أو أغلبهم، ولي في حق هذا المهرجان كلمة أقولها، وأنا المتابع والمهتمّ-بحكم تخصصي وانشغالي الجماهيري وكتاباتي النقدية والشعرية- بالنشاط الشعري على وجه الخصوص؛ فقد سبق لي أن درست ظاهرتين كبريين في الشعر المعاصر، وهما ظاهرة “شاعر المليون” وظاهرة “أمير الشعراء” في كتابي “بلاغة الصنعة الشعرية” (روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020) ضمن سياق دراسة الحالة الشعرية الراهنة وجماهيريتها، وأثر كل ذلك في الشعر والشعراء، وخلق الحساسية الشعرية، والجو الشعري العام، وفتح المجال أمام الإبداع الشعري العربي بتنوعاته ومدارسه وجغرافياته المترامية الأطراف.
لقد جاء هذا المهرجان بعد الإعلان عن تتويج الشاعرة العمانية بدرية البدري بلقب شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن جائزة كتارا لشاعر الرسول- صلى الله عليه وسلم- التي تقيمها دولة قطر. لقد عززت فعاليات مهرجان الشعر العربي مع جائزة كتارا وجود الشعر في السياق الثقافي العام، هذا السياق الذي سيطر عليه الروائيون، واحتلت فيه الرواية وجوائزها المتكاثرة المساحة الكبرى من مساحة الثقافة، بما فيها الثقافة الجماهيرية، ها هو مهرجان الشعر العربي الثالث في تركيا يعيد إلى الواجهة الشعر بروح جديدة وحضور كثيف؛ إذ شارك في هذه التظاهرة الشعرية أكثر من سبعين شاعرا وشاعرة وناقدا ومفكراً. لقد عمل المهرجان ليس فقط على إعادة الاعتبار للشعر، بل إنه أرسل رسالة بليغة إلى جمهور الروائيين ونقادهم مفادها أن الشعر موجود، وبكثافة، وبمستوى عالٍ أيضاً. ما يجعله منافسا قويا للرواية في الحضور الإعلامي والثقافي، وفي تشكيل الذائقة الفنية للجمهور العربي.
لم يُغرق شعراء المهرجان الجمهور بالغموض وبالفلسفة والتشاعر الكاذب، بل كانوا شعراء طبع وصنعة معاً، منحوا الراهن عنايتهم، وأقصد بالراهن هنا، بث الشعر حيا على الهواء مباشرة أمام الجمهور في المسرح وجاهيا، وخلف الشاشات فضائيا، وافتراضيا عبر صفحة الفيسبوك. لقد منح كثير من هؤلاء الشعراء هذه الراهنية عنايتهم في اختيار القصائد المؤثرة موضوعيا وجماليا، وكذلك خلقوا “شعرية” الإلقاء ليتجلى ذلك في كثير من إلقاء الشعراء لقصائدهم وقد تماهوا مع ما يقولون، وحضرت عند بعضهم العناصر المسرحية في الأداء ما أكسب تلك اللحظة شعريتها التي توحدت مع بقية عناصر الجمال الشعري في القصيدة. ربما من أجل ذلك ومراعاة لهذه الراهنية كانت القصائد كلها تعتمد على الأوزان الخليلية ذات الإيقاع الرتيب بشطرين وقافية موحدة، مع حرص الشاعر الذي كان يقف وراء (الميكروفون) أن يكسر جمود اللحظة بالتنويع في الإلقاء. لقد كانوا أذكياء بما ينقذ القصيدة من براثن الراتبة والملل.
إن هذا المهرجان وبالكيفية التي كانت عليها وبالشعراء الذين شاركوا في أيامه الأربعة، وبالشعر المزروع في فضائه حقق جمالية أخرى، لفتت انتباهي، وهي تلك “الإسلامية” الفطرية أو “الدينية” الطبيعية التي جللت تلك الأيام وأولئك الشعراء والشاعرات، فمما يبهج القلب بالنسبة لي وأنا ابن “الحركة الإسلامية العالمية” أن أرى الشاعرات والناقدات والحاضرات- ما خلا القليل جدا من الحضور- ملتزماتٍ بالحجاب (غطاء الرأس)، إن هذا بالنسبة إليّ كسْرٌ لعلمانية الجو العام للثقافة العربية، تلك العلمانية المسيطرة في الساحة الثقافية في الشعر وفي الرواية وفي النقد وفي صور الجريدة والمجلة، وفي الفكر وفي السياسة. فأنا على نحو شخصي أحببت ذلك جدا، مع أنني لا أعيب ولا أنتقص ولا أنتقد بتاتا من خالف ذلك. فلكل حياته وأسلوبه ومعتقداته، كما أن له شعره وجماليته. لكنّ هذا المهرجان جاء بشعر وشعراء عززوا واقع الثقافة “البديلة” التي لا بد من أن تعلن عن نفسها لتعيش جنبا إلى جنب مع مظاهر الثقافة الأخرى، دون أن تعادي إحداهما الأخرى أو تنتقص منها.
ومما لفت انتباهي أيضا في المهرجان قلة عدد الشاعرات بمقابل عدد الشعراء، على الرغم من وجود شاعرات من فلسطين والأردن وسوريا والجزائر وموريتانيا، إلا أنه ما زال عدد الشاعرات أقل من عدد الشعراء، وهذه معضلة عامة شعرية، سبق وناقشتها أيضا في كتابي “بلاغة الصنعة الشعرية” في فصل “وهج المرأة الشاعرة”، ومما وجدته بالدراسة المسحية لكثير من المنتخبات الشعرية القديمة والحديثة أن الشاعرات لا تشكل إلا نسبة ضئيلة من عدد الشعراء، وذكرت أسباباً لذلك في موقعه من الكتاب، ولكن يضاف إليها فيما يخص هذا المهرجان؛ هو أن السفر قد يشكل عائقا حقيقا أمام كثيرات لمثل هذا النوع من الأنشطة الثقافية، وما يفرضه هذا السفر أحيانا من إجراءات احترازية في ظل الجائحة التي لمّا تنته بعدُ، وبعض العوائق الفقهية فيما يخص سفر المرأة أو بعض العادات والتقاليد، لذلك كله فإنه وبناء على كل هذا من قلة عدد الشاعرات أصلا وتضاؤل إمكانيات السفر والحالة الاقتصادية التي ربما ساهمت في تقليص العدد، فإن مشاركة الشاعرات في المهرجان كانت جيدة ولا بأس بها، وهي ممثلة جيدا لشريحة الشاعرات عدديا، عدا ما تمتعت به الشاعرات المشاركات من قوة شعرية لافتة، قوة في الشعر ذاته وقوة في الأداء على المسرح.
لقد عزز المهرجان الشعر بالندوات حول الشعر والشعراء، فكان هناك جلسات نقدية تتناول بعض القضايا الشعرية المعاصرة والتراثية، ما جعل المهرجان مؤتمرا نقديا شارك في بنائه مجموعة من النقاد والناقدات والباحثين، وهذا أمر بلا ريب أعطى للمهرجان أهمية مضاعفة.
آمل أن تستمر “الجمعية الدولية للشعراء العرب” في عقد مهرجانها سنويا، وأن تراكم الخبرات لتصل إلى أبعد ما وصلت إليه، وعليه فإنني أرى أن تقوم الجمعية بما يلي لتؤسس لحالة شعرية حقيقية دائمة ومستمرة في حاضر العرب ومستقبلهم:
أولا: العمل على إصدار القصائد المشاركة في المهرجانات الثلاث والمهرجانات اللاحقة بكتب وأقراص مدمجة لتوفيرها للباحثين من أجل دراستها فنيا وموضوعيا، مشفوعة بسير مختصرة للشعراء المشاركين، وتعزز حضورهم أكاديميا من خلال دوائر البحث في الجامعات العربية، وتلفت نظر الدارسين إلى ضرورة دراسة شعرهم في المقالات النقدية، والرسائل الجامعية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وأبحاث الترقية المحكمة، لتنشر في المجلات ذات العلاقة.
ثانيا: توفير إمكانية مشاركة بعض الشعراء عن بُعْد عبر الوسائل والمنصات الإلكترونية، ممن يتعذر سفرهم من الشاعرات أو الشعراء الذين ربما منعتهم الإجراءات الأمنية من السفر والمشاركة، أو حالت دون مشاركاتهم حوائل طارئة أو غيرها.
ثالثاً: أن يكون الشعر متنوعا في مدارسه المختلفة (الكلاسيكي والشعر الحر وقصيدة النثر)؛ لأن هذا التنوع هو تمثيل لواقع الشعر العربي في أرض الواقع. وأن يكون هناك النشيد وشعر الأطفال والشعر المسرحي ولو على نطاق محدود.
رابعاً: أن تكون الجلسات النقدية متمحورة حول قضية واحدة تبحث من عدة زوايا، أو أن تختص بتجربة شعرية رائدة في الشعر الإسلامي تحديدا أو شعر أحد الشعراء المميزين في هذا الجانب، تعزيزا لهذا النوع من الشعر الذي هو مغيب عن الساحة النقدية العربية غالباً ونادرا ما يتم الالتفات إليه في الدراسات النقدية والأدبية العامة.
خامسا: تكريم شخصية شعرية أو نقدية لها أثرها الواضح في الشعرية العربية، وتأسيس جائزة باسم الجمعية أو المهرجان لما لهذا من أهمية في خلق الحافز في الكتابة وصقل المواهب وتحقيق وجودها على أرض الواقع.
وأخيراً، لا شك في أن ما قامت به الجمعية الدولية للشعراء العرب من جهود مقدر عالياً، آملاً أن يستمر في قادم السنوات، لأن مثل هذا العمل وهذه الجهود تسد ثغرة كبيرة في الفراغ الحادث في الساحة الثقافية وخاصة في الشعر، وفي الشعر الملتزم على وجه أكثر تبئيرا وخصوصيّة.
ولن أقول إلا بوركت الجهود وإلى الأمام دوماً.
0 تعليق