“هيّا نشترِ شاعراً” رواية قصيرة “نوفيلا” للكاتب البرتغالي أفونسو كروش، ومن ترجمة المترجم التونسي عبد الجليل العربي. تقع الرواية في أقل من (70) صفحة، وإن كان عدد صفحات الطبعة الصادرة عن دار مسكلياني في تونس تمتد إلى (79) صفحة، وإذا ما استثنينا الصفحات الأولى من الكتاب والعنوان الأخير غير الروائي “ما يشبه الخاتمة” الذي يشرح فيه المؤلف صراع المال والثقافة في العصر الحاضر، ومنها الشعر، إذ تقوم الحياة الحديثة على المادة في كل شيء كما تبين الرواية، حتى الشخصيات هي نسب مئوية وأرقام وحروف، كأنها مركبات كيماوية، دقيقة التكوين، وكل ما يستهلكه أو ينتجه مقدر بتلك النسب.
تكثر في الرواية العناوين، ولا يمتدّ العنوان الأكبر مساحة لأكثر من صفحة وبضعة أسطر فقط، باستثناء العنوان الأخير “ما يشبه الخاتمة” الذي جاء في سبع صفحات (70-76). تقصّ الأحداث طفلة لا تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، وهناك الأب، والأم والأخ، والشاعر الذي اشترته الفتاة. وما عدا ذلك فالشخصيات نسب وحروف ومركبات مشفّرة، ليس لها أسماء أو صفات أو ملامح.
يبدو للوهلة الأولى أن الكاتب يسخر من الشاعر، فهو عديم الفائدة في ظل الأوضاع المعاصرة، تعد الأسرة له مكانا هامشيا ليسكن فيه، مساحة لا تتعدى المترين ونصف تحت الدرج، ويفصل بين مكان عيش الأسرة وهذا المكان المخصّص للشاعر درج طويل، كأن ذلك إيحاء بالفرق بين الشاعر الحالم، وهذه الأسرة المادية التي كل شيء عندها بثمن وبمقدار كذلك.
يعامل الأب والأخ والزميلات الشاعر بشيء من الجفاء والقسوة والتندر، وتطال السخرية الفتاة أيضا كونها هي صاحبة فكرة شراء الشاعر، وانتقلت إليها عدوى حب الشعر، وصار يتسلل إلى لسانها ومنطقها بعض الجمل الشعرية ما أوقعها في موقف محرجة تندرية. يمثّل هؤلاء الأشخاص، عدا الفتاة، الفكرة الاقتصادية وتركيز اهتمامها على الجوانب المادية فقط.
إن الانطلاق من فكرة “الشراء” لشاعر تحمل أكثر من بعد تهكمي، فقد تساوى الشاعر مع القطط والكلاب في إمكانية الشراء، والخضوع للعرض والطلب، حتى عندما تتخلى الفتاة عن الشاعر مرغمة تضع الأسرة الشاعر في السيارة وتذهب به بعيدا لتتركه تحت شجرة. هذا المشهد بالذات مشهد تكرر في حياة الأسر الريفية في فلسطين في القرن الماضي، ولعله ما زال موجودا في بعض المناطق، فكلما استأنس بتلك الأسر كلبٌ أو قطّ، حملت تلك الأسر ذلك الحيوان ورمته بعيدا عن مكان سكنها. يعامل الشاعر في الرواية كأنه “قط” أو “كلب” يزيد أعباء الأسرة المادية بعد تدهور أحوالها الاقتصادية وتراجع أرباح مصنع الأب. هذا المنطق نفسه هو ما دفع كثيراً من الأسر الغربية للأسف في ظل “الحجر الصحي المنزلي” الحالي بفعل الإجراءات الاحترازية من فايروس كورونا إلى التخلي عن حيواناتهم الأليفة، وخاصة الكلاب والقطط، فهامت في الشوارع والأزقة، فتولد من ذلك التصرف مشاكل بيئية وربما أكثر من بيئية، سلوك يكشف بالتأكيد الأنانية المفرطة للإنسان المعاصر.
إن صورة الشعراء في هذه الرواية ليست حسنة في مظهرها، بل تبعث على الشفقة والاستهزاء، وظهر الشاعر في سلوكه منفصلا عن الواقع تماما، وكأنه مُكلّف فقط بردم الهوة بين أحلام الناس وواقعهم، ما يعني أنه يعيّشهم في الوهم، فما معنى النافذة على الجدار؟ وهل هي تفتح نافذة على البحر؟ وهل رسم قطعة اللحم بطبق السبغيتي يغني عن اللحم نفسه؟ إن شيئا من الوهم يسوّقه الشعراء في جملهم وسلوكياتهم أيضا. هذا خطاب مستدعى من الرواية كذلك، وهو محلّ مساءلة وتمحيص.
ولكن هل يعقل أن يسخر روائيّ من الشعراء بهذه الطريقة؟ ثمة أمر آخر إذاً من وراء كل ذلك. لقد عمّق الكاتب الهوة ما بين الثقافة بوصفها حاجة ضرورية ولكنها غير ملموسة، وبين الحاجات المادية الملموسة وخاصة الطعام، وأفرد الروائي لبيان هذه المسألة الفصل الأخير الذي أطلق عليه عنوان “ما يشبه الخاتمة” فلا داعي لأعيد ما قاله، وقد بينت مضمونه فيما سبق.
عدا هذه المسألة التي شرحها الروائي من خلال الأوضاع الاقتصادية في بلاده، ثمة أمور أخرى مهمة في هذه الرواية تكشف عن أهمية وجود “الشعر” في حياة الناس وأنه لا بد منه، فلم ينقذ الأب من إفلاسه سوى بيت شعر من هذا الشاعر، والأخ الذي كان ينظر إلى الشاعر بازدراء واضح حقق بعض المكاسب من ذلك البيت الذي كتبه له على ورقة وأعطاه إياها، وعدا تأثيره الواضح في الطفلة الساردة كما أشرت آنفا، فقد ساهم في تحقيق الثورة، ثورة الأم على الأب، فتقوم بطرده خارج المنزل، وتمتنع عن صنع الطعام لابنتها فبإمكانها أن تصنعه هي، كل ذلك التغير في شخصية الأم كان بفعل كثير من الجمل التي كانت تسمعها من الشاعر نفسه، لقد جعلها “الشعر” تلتفت إلى ذاتها، وشكلها، وتهتم بنفسها. ومن الملاحظ أن الأثر الأكبر للشاعر كان بعد طرده من البيت، كأن الكاتب يريد أن يؤكد فكرة الشعر وليس الشاعر، فقد كان الأثر بعد ذلك لكلمات الشاعر، وليس بشخصه هو، لذلك فإنه، كالشخصيات الأخرى، حضر باهتا وبلا ملامح تسترعي الانتباه، أو تدعو إلى التركيز عليها. وبهذا استطاعت الرواية أن تنحو منحى التجريد مع احتفاظها بعنصر التشويق ودون الوقوع في شرك التنظير المنفّر.
لعلّ قراءة العنوان مرة أخرى بعد إتمام الرواية، سيصبح له في النفس مدلولٌ آخر، فلم تعد تحمل معنى التهكم والسخرية من الشعر والشعراء، بل أصبحت تعني “هيا نشترِ شاعرا” معنى إيجابيا، بعيدا عن معنى “الامتلاك” بالمفهوم الرأسماليّ، بل بمعنى الاهتمام والحرص على وجوده، كما في معنى المثل الشعبي الفلسطيني “اللي ما إله كبير بيشتري له كبير”، دلالة على أن الحياة لا تستقيم بغير الشاعر، أو بغير الثقافة التي جُعل الشاعر دليلا عليها، ويحمل رمزيتها، وبذلك يكتسب الشاعر منزلة عليا في سلم القيم الثقافية المجتمعية والفردية على السواء.
كل ذلك يؤدي إلى أن الثقافة عموما هي حاجة مهمة للتطور البشري وللتوازن العاطفي والسلوكي، وهي النتيجة التي أكدتها الأبحاث التي استند إليها الروائي في “ما يشبه الخاتمة”، وعرض شيئاً منها.
وعلى صعيد آخر كشفت الرواية عن مأزق آخر للثقافة في ظل الحياة الاستهلاكية الرأسمالية التي تغرق فيها المجتمعات، فالثقافة أول ما يتم الاستغناء عنه في مثل هذه الظروف، مثلما حدث مع طرد الشاعر. فلم تشكل أولوية في ذهن صانع القرار، وإنما دائما تندرج الثقافة في باب الترفيه والتسلية، وإن تعارضت ثقافة مع رأس مال، لا بد من أن تكون الضحية هي الثقافة. هذا أمر ليس مقتصرا على نظام دون آخر، بل هو سمة عامة تجدها في النظام الرأسمالي، كما في النظام الشيوعي، كما هي في النظام الإسلامي.
واستطرادا في موضوع الثقافة وعلاقتها بالأنظمة الرأسمالية، وخروجا قليلا عن موضوع الرواية، فإن الرأسمالية في المجمل لا تحترم التراث الثقافي ولا الثقافة، فهي مستعدة للتخلي عنها بالكثير من اللامبالاة، بل ربما وظفت الثقافة والمثقفين لمصالحها السياسية، كما حصل مع مجلة شعر اللبنانية وعلاقتها بالمخابرات الأمريكية، بل ورعاية المخابرات الأمريكية لكثير من الأنشطة الثقافية في بعض دول المعسكر الشرقي أيام الاتحاد السوفياتي، وأدخلت الثقافة في سياق الحرب الباردة، وقد أفاض في الحديث عن هذه القضية (ف. س. سوندرز) في كتابه “الحرب الباردة الثقافية”. ربما لم تظهر هذه الفكرة في الرواية بشكل واضح، ولكن يمكن استدعاؤها أيضا إذا أراد المرء توسيع دائرة البحث فيما وراء الفكرة الأعمق من الرواية.
جاءت هذه “النوفيلا” رواية فكرة بامتياز، وقد اعتمد الروائي على تقنية التجزيء المتعدد للبنية الروائية، ومرّر أفكاره بين العناوين بسلاسة كبيرة، ولم يكن للأحداث والشخصيات أهمية كبيرة في السرد، وإنما جاءت كل العناصر لتخدم فكرة أهمية الثقافة في حياة المجتمعات، وقد عزّز كل تلك الأفكار في العنوان الأخير “ما يشبه الخاتمة”، إذ يصبح ما كُتب تحت هذا العنوان جزءا أصيلا من بنية الرواية، وربما من أجل ذلك أطلق عليه هذا العنوان المخاتل “ما يشبه الخاتمة”، حيث شرح الكاتب الفكرة وعممها ولم يقصرها على الشاعر، بل أدخل في الحديث الثقافة عموماً، فمثّل الشاعر استعارة لفكرة الرواية ليس أكثر.
لم يمنع هذا التعميم الشامل لكل جوانب الثقافة من أن يستشهد الروائي في هذه الرواية بشعر شعراء كبار أشار إليهم في آخر صفحة، وبلغ عددهم أربعة عشر شاعرا كان من بينهم ت. س. إليوت، وييتس، ووالت ويتمان، وقد جاء هذا الاستشهاد إما ظاهرا، مقتبسا جملا كاملة من أشعارهم، وإما أن يكون لهؤلاء الشعراء وشعرهم حضور بين السطور، فيقول الكاتب في آخر ما خطّه في روايته: “ولكن، إن انتبهنا، يمكن أن نتفاجأ بهم يتطلعون إلينا بين كلمات هذا الكتاب”.
إنها رواية الاحتفاء بالشعر والشاعر وبالثقافة عموما وانتصار لتلك القيم، في مقابل قيم المادة والمال، فهلّا اشترى كلّ واحدٍ منا شاعرا، يتخذه دليلا لحياته ليجعل للحياة متعة وفائدة كذلك؟
0 تعليق