لا يعرفُ العنصريَّةَ والتَّعصب (الجزء الأول)

بواسطة | 15 مارس 2018 | مقالات | 1 تعليق

رحتُ أفتشُ هذا الصباح عن بعض حاجات المعيشة في السوق، وقد تنوعتْ معها أصناف الأطعمة المُستحدَثة الوافدة إلينا من سائر مطابخ العالم، واستقرّتْ حاليا عند حدود “الفاهيتا والفيلادلفيا والسوشي”، مما كنتُ أحسبها وأنا أسمع بها لأول مرة، أنها أصناف حديثة لعرباتٍ كوريّة الصنع، غزَت سوق تجارة السيارات.

تجولتُ في السوق وأنا أتأبط مزيداً من أكياسٍ يربكُني حملُها، وأدقق في قائمة الحاجات التي سجَّلتْها، ودسّتْها في جيبي رفيقة دربي مسؤولة الاقتصاد، التي عاونتني وتعبتْ في حياتها معي أكثر مما ينبغي، لتلبي طلبات الأسرة في النَّظير المعاكس، لقول السيد المسيح عن حياة الإنسان، وحاجته لغير الخبز والخضار ولحمة العجل والخروف؛ “وجذور وثنية الأضاحي”: مقالة المهندس عادل الحاج حسن المنشورة في مجلة “السنابل”، والتي واجهتْ صخبا واعتراضا مجحفا لم يكن الكاتب سببا مباشرا فيه.

اللحمة أشدّ الأطعمة زنخة ووقعاً مؤذيا، على وجدان وحواس النباتيين المُعَذّبين أمثال “سوسن” ابنة شقيقي، التي رهنت نفسها وبذلت جهداً طيِّبا لم يتوقف؛ يستحق الشكر على المساعدة في العناية، بمن شرَّدتهم الحرب من أوطانهم، وقد تنازلتْ عن كامل نصيبها في الدّنيا من اللحوم ومشتقاتها، منذ طفولتها وبدء وعيها الخلقي المُضْني.

اللحمة دخلت طوعا كيمياء الإنسان مع بداية الخليقة والكينونة الأولى، وتحوَّلت إلى “إكسير” لا غنى عنه لبني البشر؛ والحيوانات الكاسرة على السواء. من هنا ابتدأت جذور الأضاحي بشكليها المُوقِن أو الوثني، وهكذا استبدّتْ شهوة القصّابين إلى السكِّين واللحم الحلال، بترخيص إلهي لا ترقى إليه الشكوك.

وهكذا شاء ربُّك أن يُسَلِّطَ المخلوقات؛ القويّ منها على الضعيف، لكي تتوازن أحوال الحياة فلا تقوم إلاّ على التناقض وعلل الوجود، في فيض من الصراع على ثروات الأرض، والإمعان في الشماتة بماركس.. وسلام الدّنيا الهزيل. حياة بعيدة تماما من صفاء الأرواح الهادئة ومن سحر الطقوس، ونجوى الصبابة والتَّمني في ليالي الشعر والحب والبخور، والقناديل المضيئة وعطر الزنابق في الحقول، فلا يكون الفداء مقبولا بغير الدم المسفوح على مَرِّ العصور.

“ضاقَ عن وَجْدي بكم رَحْبُ الفَضا*** لا أبالي شَرْقَهُ من غَرْبِهِ”. هي حال المربَك في فكره ووجدانه وخياله المُتْعَب، لا يبالي وهو ينطُّ بسرعة “القبُّوط” من موضوع إلى موضوع، ولا يدري أين يحطُّ  في القفزة التالية، بعيدا من نهج الكتابة المألوف، ومعظم الضوابط والقيود. وهكذا أجدني وأنا في السوق، حيث الأحياء المهمَلة الفقيرة والمياه الآسنة في الطريق، أقفز إلى جوار ملاك أبيض، يغطُّ بجناحيه المنشورين في ضاحية بيروت الجنوبية. الضَّاحية العصيَّة على الطائرات الإسرائيلية وعدَّتها العسكريَّة الأميركيَّة، وكل خيانةِ مَحَلِّيات التفخيخ والتفجير.

استوقفني فيها يا سبحان الله إعلانٌ “رومنسيٌ” على مدخل “بوتيك”، يبيعُ ثياباً للأولاد من صنع سوريا الغارقة في دمائها..! فهل تُصدِّقون..؟ ويقول الإعلان: “ملبوسات الملاك الأبيض – للأطفال”..!؟ وعتبتُ على ربِّي..! لكنه عتبُ الحبيب على الحبيب، واستغفرتُه ألف مرة ومرة، من الوسواس الخنّاس يوسوس في صدور الناس؛ أن لا يكون قد خلق ملائكة سُوداً ممن حرمهم من نعمة البشرة البيضاء.؟! حتى هنا في الضاحية موطن “المهزومين” “والغلابى” من فقراء الناس، يميِّزون يا ربِّي بين أجناس الناس وأعراقهم البيضاء والسوداء..! ثم توسلتُ إليه أن لا يغضب مني على حشريتي والتدخل في سِرِّه وشؤون خلقِه، وأن يسامحني ويسامح صاحب “البوتيك” ويغفر ذنبي وفضولي.

ملاك الضاحية الأبيض كان قد امتطى أسرع خيول السماء. تلك التي تعدو سريعة كالنور كما حسبها “أنشتاين”، ولا فرق في لون الحصان أبيض كان أو أسود..؟ ما دام كلاهما على وزن أفْعَلْ – وأحْمَدْ، ووزن أفعل ممنوع من الصَّرف كما تعلم يا شيخ أحْمَدْ. أطلق الملاك العنان لفرسه المطهَّم الجميل وهمز جوانبه بساقيه، ثمَّ أسرع بالنزول عبر بوابات السماء، مجتازاً الكواكب والمجرات بلا ضجة ولا ضوضاء. حذوة حافره تلامس الريح فتشرقط نارا من ذهب؛ ليحط أخيرا على كوكب الأرض في مدى لحظات لا تزيد.

وصل الملاكُ رسول السماء إلى الأرض، وهبط على جبل بالقرب من “أم الزيَّات” في فلسطين، تنفيذا لأوامر خالق الكون ومبدع الحياة والموت، وهو ينادي بصوته الراعد الداوي، الآتي من غياهب سماوات لا يطالها عقل العلماء العارفين: يا نَبِيَّ الله “يَحْمَدْ” أحْسِنِ الظن بربك ونَظِيرَيْكَ “سَامَا وَنَجُّومْ”..؟ كنّا نختبرُ تقواك وخضوعك وحسب. تقبّلَ الله فداءك ونجحتَ في امتحانٍ عسير، واصطفاكَ ربُّك على أهل الأرض من المؤمنين الخاشعين. فُزْتَ ورب الكعبة رافع السماوات فوق أديم الأرض. توقّفْ وخذ الكبش من مراعي الفردوس، وارفع السِّكِين عن رقبة الفتى المسكين. دعك من عبلة وسارة وهاجر.. واتقِ رب العالمين.

والنّبي “ساما” جارنا وجاركم بقبَّته المتواضعة وداره الضَيِّقة، وضريح  علي الحاج حسن، ممن شاركوا في المحاولة الانقلابية على فؤاد شهاب، وشجرة توت أبيض على الزاوية الشرقية، وإدارة رُهْبانِه من المتّقين المؤمنين من “بيت زين”، ممن يتولون كسوة المقام، بأقمشة كانوا يحملونها معهم من الشام. النبي ساما أغنى قليلا من النّبي “نَجُّومْ” يقيم في أول السهل، حيث ينأى بنفسه على أطراف “طارَيَّا”؛ زاهداً وحيداً في العراء في حرِّ الصيف وجليد الشتاء. يقتِّرون عليه التّبرع بالمال مما يستبيحونه لاحقا لأنفسهم، عندما تدعوهم حاجتهم إلى المال.

لم يكن مقام النبي نَجُّوم، خاضعا لإدارة “بيت زين” فلم يكن مُصان المال؛ وقِلَّة من كانوا يتبرَّكون بزيارته عبر طريق البيادر الترابية، إلى مغارة حمزة وعين “بَعْمِيري”. العين التي أصابها ما أصاب عينيّ وقلبي ووجداني، من جفاف تأخر كثيرا عن موعده في الوصول. لكنّ ساما النّبيّ المميَّز قليلا، بمقامه وقبَّته عن النّبي نَجُّومْ “الفقير”..  فله في قلبي مودة خالصة.. معزَّة البقيا والجيرة والعشرة الطيبة وصداقة عمر طويل.

كنت أعربش على شجرة التوت، ذات الطعم السكريّ المغري، التي عرفتُها في دار النبيّ الكريم، وكان يخشاها بقيَّة الأولادُ ويبتعدون عنها، ومنهم من كان لا يجرؤ على النظر إلى التوت تشتهيه الأفواه قبل العيون. لكنني بقلب جريء دون ما خشية أو تردد، أو إحساس بذنب كنت أجاهر بأكل “كبوش” التوت، بلا خوف من نار الجحيم، مما حشروه في رؤوسنا الصغيرة القاصرة عن إدراك معنى السماح ومدى مغفرة الله.. والجار الكريم. كنت واثقا أنَّ ثمارها الناضجة ستقعُ وتغطِّي أرض الحرم وليمة للنمل والعصافير، وأنَّ النبيّ لن يستفيدَ منها أو يغضبَ مني، وأنا ضيفٌ في داره وأبي يكرمُ الضيفَ في بيته، فما بالك بحالِ الأنبياء كيف يكرمون الأطفال الضيوف..؟!

شرَّقتُ وغرَّبتُ قليلا لكنني لم أزل في ضاحية بيروت. بهرني ضوء الشمس في الخارج، وغَشِيَتْ عيناي من شدة نور النهار، في ساحة مكشوفة على سماءٍ كريمة تُخَيِّمُ على الجميع؛ نور بدأ يخبو في القلب والفكر والعين، ولم أكن منذ أسبوع قد غادرت المنزل إلى تعاونيّة التموين، حيث انفجرت في ساحتها سيارة مفخخة منذ بعض الحين، وحصدت من حصدت من عشرات الضحايا المساكين. وحينما أنهيت مهمتي في السوق، وأتيت أشرب قهوتي وأستطلع الحاسوب..؟

أسعفتني إجابتك ورأيت خير الردود ما يأتي على “كعب” المقالة، وأجدى البكاء ما كان مباشرة على رؤوس الأموات، وما دمنا نعيش فلن نرحل عن الدنيا يا صديقي، إلاّ ونحن نخفق ونَجِدُّ في المسير إلى أبعد “واحةٍ من قلب الصحراء العربية”، تتردد أنفاسنا في صدورنا ويتعالى وجيب قلوبنا بين الضلوع..؟ أو يحاسبنا الخالق عند القيامة على  طاقة زوَّدنا بها، ووأدناها في الإغفال عن حاجات الحياة، التي لا تموت ونحن في انتفاضة النفس الأخير.

فما رأيك تأتي معي في هذه العجالة إلى العامرية، والصَّمة القشيري يقتله إليها الحنين..؟ أشدّ صبابة من قيس البوادي عند العرب، وروميو وجولييت عند شكسبير. القشيري صاحبنا هذا ينبغي أن تتعرف إليه فهو من أرقِّ وأفصح العشاق الشعراء على مر العصور. أو فليكن الأمر على مذهب الغزل التقليدي في مطلع مراثي من نبكيهم من الراحلين.

بروحيَ تلكَ الأرض ما أطْيَبَ الرُّبى *** وما أحْسَنَ المُصْطافَ والمُتَرَبّعا
وأذْكـُــــــرُ أيـَّـــامَ الحِمَى ثمّ أنْثَني *** على كَبِدي مِنْ خَشـــْيَة أن تصَدَّعا
وليســــتْ عَشيَّاتُ الحِمَى برواجِعٍ *** إليــــــكَ وَلكنْ خلِّ عينيكَ تَدْمَعا

كأنّا خُلِقْنـــــا للنَّـــــوى وكأنّــــما *** حـَــرامٌ على الأيَّــــامِ أن نَتَجَــــمَّعا

https://www.youtube.com/watch?v=LTiLXejQnfE

–> يتبع في الجزء الثاني

كتابات أخرى للكاتب

كاتب لبناني

1 تعليق

  1. هيام فؤاد ضمرة

    قَدْ شغلَ النَّاسَ كثرَةُ الأملِ وأنتَ بالمكرُماتِ في شُغُلِ

    تمثَّلُوا حاتِماً ولو عَقَلُوا لَكُنتَ في الجُودِ غايَةَ المَثَلِ

    هديَّةٌ ما رأيتُ مُهديَها إلا رأيتُ العِبَادَ في رَجُلِ

    أقلُّ ما في أقلّهَا سمكٌ يَسبَحُ في بِرْكةٍ مِن العَسَلِ

    كَيفَ أكَافي على أجلِّ يَدٍ مَنْ لا يَرَى أنَّها يَدٌ قِبَلي

    هي سياحة لليراع في ما بين سياحة السوق ومساقات الخبر والحدث، يأخذك التجوال في ناحية من السوق فيشد انتباهك ما يشده حتى تنتفش فيك أجنحة تحليقات الخيال فوق المزيد من الصور والأحداث في ربطها بمخرجات الذاكرة التي تختزن ما تختزن من الأخبار مما في هذا العالم المليء بالأثر الانساني..
    وتجول جول الطائر المحلق مستطلعا ما في الأثر من روايات وحكايات، وإذا نحن معك بالأعقاب نجمع بعدك ما تتركه لنا من المعرفة والمعلومة ما يضيف إلينا وما يفيد معترك حياتنا، فتأخذنا في نواحيك التي تعيشها ويعيشها الناس بعقلياتهم ومفاهيمهم التي كثيرا ما تظهر ما في أعماقهم، حتى في أسماء المحال التجارية.
    ربط الناس لون الملائكة الصغار باللون الأبيض لروعة ونقاء طبيعتهم، لكنهم نسوا أن الملائكة البيضاء في المفهوم الاجتماعي ارتبطت بالأطفال الموتى وليس الأحياء، ولو تذكر صاحب المحل ذلك لأعف نفسه من أن يتعنصر نحو اللون الزاهي بالبياض.
    القارئ لابراهيم يوسف يعيش الصور المكتظة بصورته الأصلية حتى ليكاد يعيش الصورة بأبعادها الثلاثية التي تحتفر شكل الصورة عميقاً في الوجدان.
    سلم ابداع هذا اليراع المحلق بين مسافات الماضي والحاضر ليجعل الحياة أكثر امتاعا وأجمل استخلاصاً
    وتحية بلون البياض

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.