كرونوس في موسم الإنتخابات

بواسطة | 20 أبريل 2018 | مقالات | 2 تعليقات

تسكنُ المعاني رحابَ النفس، كما تسكنُها الأساطيرُ. فإذا ما أغواها بياضُ الورقِ، هبطتْ اليه. ومن بياض الحقائق الضيقة على الورق، تهبطُ ثانية الى رحاب المجاز. وكان المجازُ زمنَ كرونوس سيدَ اللغة. به توسعتِ  المعاني، وشُرِّعَتْ في فضائه مصارعُ الرغبات، “فعاش الناس حياتَهم  بالولائم، ثم ماتوا كمن يعانقُ حلما. وتحولوا بعد الموت الى أشباحَ لطيفةٍ تجوبُ الأرضَ وتمنحُ الثروات”.

من زمن كرونوس، الى زمن ابنته سيريس، الى زمن الذعر هذا، حضورٌ واهمٌ بين ماضٍ ملتبسٍ طواه الزمانُ، وآتٍ لا أفقَ له. نُدفعُ في مجاهله دفعا نحن اللاهثون وراء إصلاحاتٍ يَعِدُ بها النظامُ السياسيُ في كل انتخابات نيابية جديدة. فلا تتحققُ الوعودُ الأولى، ولا المتجددُ منها، ولا حتى دماءُ الواعدين. في ضمائر الناس طموحاتٌ متواضعة، واطئةُ السقف، قليلة التبدل، شديدةُ الضرورة، تتصدر البرامج السياسية، ثم تتراجعُ  وتتقادمُ حتى تنكفىءَ للسطح، ثم تنأى وتتبدد.

القرارُ السياسيُ الوازنُ يلازم الديمقراطيةَ ويتكيءُ عليها، يُغَيِّرُ المظاهرَ الخارجية لحياتنا ليضمنَ الغلالَ الوفيرة بما يطرأ لاحقا من مفاعيلَ على أرواحنا، إلا قرارٌ مجحفٌ يفرضُه مغتصبو السلطة أو تعسفُ الإرادة الإلهية التي تكتبُ قرارها بحبر الحرية المطلقة. فكل ما هو آتٍ منبسطٌ لدى الآلهة حاصلٌ من قبلُ في سريرتها. لذا يختلي الناسُ بذوي الرأي للتشاور، ويختلي الآلهة بأنفسهم كلما كان القرارُ مصيريا. فهم لا يتقصون المعرفة كما نتقصاها من خزائن غوغل ولا يرصدون ميولَ الناس كما يرصدُها استطلاع ٌمتخصصٌ للرأي. الآلهة تأمرُ الأشياءَ وتجعلُها، بخلاف السياسة التي هي تربيةٌ بطيئةٌ لأهواء الناس، لا يستثيغُها زبانيةُ النظام، (وأصلُ الزَبَنِ: الدفعُ، وهم لغةً عند العرب: الشُّرْطُ، وبهم سُمِّيَ  بعضُ الملائكة لدفعهم اهلَ النار الى الجحيم) مع الزبانية تتداخل المصالحُ وتُوَسَّدُ الأمورُ لغير أهليها. فتغيبُ الغاياتُ السياسية للحكم  ويتمسكُ الجميعُ بمصالحِهم المادية.

للسالف حكاياتٌ ترتبطُ بذاكرة الزمن، فلا يمضي بها الماضي، يعلِّقها في أماكنَ نائيةٍ، لكن ليس أبعدَ ممَّا يمكنُ للذاكرة أن تصلَ اليه. فللأمكنة البعيدة، كما للذاكرة القديمة، ثقوبٌ تتسرَّبُ منها الحكاياتُ كالشبح اللطيف. قال الناسُ: حديثُ خرافةٍ، وقالوا: أساطيرُ الأولين زمنٌ تداعى وقلَّ نفعُه. وأنا مشغولٌ بقليل النفع، مأخوذ ٌبما تَسْهُلُ فيه الخوارقُ، مسكونٌ بأربابٍ اختزنوا فيما مضى بزورَ المُمْكنات، ثم غرقوا في سُباتٍ أزلي لذيذ . عكر صفوَه، أن خلقوا مرة لأنفسهم عبيداً ذوي ضجيج، يصطادون لهم السمك، ويقومون بأودِهم كما قام السومريون والبابليون الأوائل، فقد كانت أفواهُ الآلهة أكبرَ من عقولها، ولولا العبيدُ لمضى الآلهةُ كما كانوا، يمدون رؤوسَهم ليلتقطوا النبات، كالخيل تأكلُ من مزاودِها.

وللحاضر آلامٌ تفجرُ حنيناً للعصور الغابرة، وأكثرُ تلك العصور إثارةً للحنين، عصرُ الأساطير، منه أتينا، وقد بسط عليه كرونوس سيادتَه وحكمَ على خير ما تحكمُ الآلهة. فعاش الناسُ بروح هانئة آمنة لا تعرفُ الحزنَ ولا التعبَ. وصفَه هريدوس Herod فقال: هو أكثرُ العصور سعادةً، عاش فيه الناسُ برَغَدٍ تام، لم يُقسَّمْ لهم عملا، لم يعرفوا الفسادَ كما نعرفُه اليومَ، ولم يشعروا بالحاجة لشيء ما. كان العملُ تسليةً وتحقيقا للذات، وقبل أن يكونَ تسلية، لم يكنْ موجودا. كانت القطوف دانية، والقطعانُ وافرةً، والأرضُ تنبتُ ما تشاءُ وتقدر.

من السماء نزل الآلهة الينا، تتملكُهم رغبة الدخول في جسد امرأة أو في جسد الأرض. وصعدنا اليهم كَوَلِيِّ أمرِ البيت وكيع بن زهير، نناجيهم من على معارجَ عادية من الخشب. أو من على صِرْحٍ كصرح فرعون نطَّلعُ منه الى إله موسى. كنا مع الآلهة أبناءَ جيلٍ واحدٍ، حملْنا من جبروتهم وحملوا من صغائرنا. تزاوجنا حتى اختلطت دماؤنا، فقد وجد الآلهة أن بنات الناس حسانٌ (التوراة). بدأوا اختيارهن نساءً لهم، إلا يهوَ المتعالي الذي رفضَ وضعَ مَنْيِه في أرحام بشرية. تبادلنا جيناتنا إذاً، ثم تشابهنا قبلَ أن نفترقَ في العصور اللاحقة، وقبلَ أن ترتفعَ السماءُ حداً تعذَّرَ بلوغُه إلا على بُراقٍ له جناحان من الضوء.

حمل الآلهة من صغائرنا طمعا تجلَّى في الصراع السياسي على سلطة دفعَ أورانس ثمنَها من بين فخذيه. فظهرَ على ساحليْ الهند وقبرص من الزَّبد المخصَّب بالخِصِيِّ جمالٌ وأحصنة ٌوأفكارٌ سريعة، ذلك أن  غايا Gaia (الأرضَ) أحبت أورانس Ouranos (السماءَ) لأنه وحده استطاعَ أن يحيطها بذراعيه. أنجبت منه ستة صبيان وستَّ بناتٍ. لم يمنحْهم الأبُ شيئا من صلاحياته، ومتلذذا، دفعهم بعضوه الذكري الى باطن الأرض ليبعدهم عن جنة الحكم، فدبّروا انقلابا دمويا قاده كرونوس Chronos (الزمانُ) استجابة لطلب الأم التي أخرجتْ من بطنها الفولاذَ الرماديَّ ليُصنعَ منه المنجلُ الضخمُ Harpe، وكان كرونوس أصغرَ الآلهة التيتانوس وأكثرَهم لؤما. قطعَ بالمنجل خصيتيْ أبيه المخدَّرِ بعسل السنديان، وعاش هاجسَ الخوف أن ينقلبَ عليه أبناؤه مثلما انقلب. التهمَهم تباعا. افترسَ ثلاثَ بناتٍ وصبيين، وأخفتْ عنه زوجتُه في جزيرة كريت أصغرَ أبنائه (زوس). فلما اشتد عودُ الصغير، كسرَ لشقاوته قرنَ العنزة المرضعة أمالتيه Amalthée، ثم تودَّدَ اليها فاعتاضته قرنَ الوفرة Corne d’abondance الذي يفيضُ جوزا وازهارا ومنتجاتٍ زراعيةً. قطعَ زوس طمعا بجنة الحكم  ــ وعلى النمط التركي القديم ــ خِصيتيْ كرونوس حتى لا تكونَ لأبيه ذريةٌ أخرى. كم ترهقنا اليومَ ذراري الحاكمين وكم قلَّ قاطعو الخِصِيِّ في صراع يُنتظر فيه بلا طائل تجدد السلطة السياسية، ألا ليت للسياسيين أبناء كأبناء التيتانيس.

لم يمنح أورانس أولاده سلطةً يرغبون بها، أطاحوا بخصيتيه وحكموا العالم بأتفسهم. ونسيَ كرونوس قائدُ الإنقلاب أن السياسية تملأُ الآلهةَ مثلما تملأ البشرَ بخُبث نفوسهم Machiavelli. رفضَ “الزمانُ” أن يتخلى عن ترف الحكم للراغبين بتجديده كما يفعل كثير من حاملي عبء السلطة. ألا لو أن أحدا منهم يتعبُه الحملُ فيخلدَ لصلبه وسكينته وينزعَ الى حياته الخاصة كما نزع “صولون” Solon في المائة السابعة قبل الميلاد، حكم أثينا ووضعَ قوانينها الثورية في ربع قرن، ثم ترك الإمرة السياسية طوعاً ليستمتعَ بدفء الحضارة المصرية ويدرسَ تاريخَها. وعندما طلب اليه أهلُ أثينا أن يعودَ للحكم ثانية بعد أن ساءَ حالُها قال: “إن السلطة مقامٌ جميلٌ، لكن ليس ثمة طريقٌ للنزول منه” ثم علَّقَ أسلحتَه على باب بيته علامةً لطلاق السياسة ومضى يكتبُ شعرا.

مهندس وكاتب لبناني

2 التعليقات

  1. شوقي يوسف

    توصيف رائع لحال الانتخابات يجمع بين المخزون الأسطوري والوعي الانساني الحاضر. ملامسة تكاد تكون سحرية لجوهر الاشياء من قديم الزمان. واقعنا السياسي لا يبهج القلب والمخرج بعيد المنال يتطلب مخاضا عسيرا للغاية. الأمل باق في عقول العلمانيين. شكرا صديقي عادل.

    الرد
  2. شوقي يوسف

    توصيف رائع لحال الانتخابات يجمع بين المخزون الأسطوري والوعي الانساني الحاضر.ملامسة تكاد تكون سحريه لجوهر الاشياء من قديم الزمان.واقعنا السياسي لا يبهج القلب والمخرج بعيد المنال يتطلب مخاضا عسيرا للغايه.الأمل باق في عقول العلمانيين.شكرا صديقي عادل.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.