إلى.. رفيف وآية وعمران
وسائر الأطفال.. ممن لا زالوا على قيد الحياة
أو ممن غيبتهم بشاعة الحرب والموت
“سام بيرنز.. وإيلان كردي “
كانا يستحقان الحكاية والعيش لفترة أطول.
مع المودة الخالصة والتقدير الكبير
من “رابعة العدوية”
إلى
المهندس الأستاذ عادل الحاج حسن
في ليلة من تلك الليالي التي يخيّم عليها سلام النفس وهدوء البال، وتطيب معها الذكريات ودواعي الكلام، صوَّر لي خيالي وسميري في ليلي ووحدتي، أنا التي تيّمها الهوى وغزاها الغرام بالأطفال، قصة حب ونبوءة في الوفاء ليست كقصص جدتي عن الشاطر حسن والفانوس السّحري، ومن يندسُّ في حضنها من الأولاد، ولا هي من روايات ألف ليلة وليلة، وحكايا شهرزاد تتوقف عن الكلام المباح كلما انبلج الفجر وأدركها الصباح.
حدثني خيالي فقال: كان يا ما كان في ماضي الأيام وسالف الأزمان، صياد يشق عباب البحر بقارب متهالك تتلاعب به الأمواج، كلما واجه الريح أو هبَّت عليه العواصف. ألقى الصياد ذلك اليوم بشبكته الفضية المليئة برائحة الحب وزهور الغاب، ومعها ألقى همومه إلى الماء وراح ينتظر ما يجود عليه البحر من الرزق الحلال.
الصياد هجر الزراعة لشح المياه وقلة الأمطار، وعمل في صيد البحر على مركبه وشبكته الوحيدة التي صنعتها له بنات جزيرة النور المحرّمة على الرجال. شبكته مصدر رزقه وعيشه ومتاعه الوحيد في دنياه، وجزيرة النور هذه تسكنها أجمل نساء الكون، ممن خلقن من النور والندى وأوراق الورد والريحان. جزيرة محرمة أن يطأ أرضها الرجال، ونساؤها تعمل في صناعة شباك الصيد، يمزجن خيوط الشمس وضوء القمر بأمواج البحر وأوراق الندى الأجمل، فتفوح منها أزكى روائح الغابات، وترسلنها عبر البحر برفقة الفتيات الصغيرات يبعنها على الساحل في قرية الفتى الصياد.
والفتى الصياد كرفاقه من الصيادين الآخرين ينطلق بقاربه الصغير مع الفجر، ويعود إلى كوخه والشمس تنحدر نحو المغيب، حاملا همومه وشبكته على كتفيه المتعبتين بفعل الخيبة والحرمان، وبين خيوطها علقت سمكة أو سمكتان يبيعهما في السوق، فلا يكاد يكفي حاجة يومه ما حصل عليه من المال القليل، وكثيرا ما عاد خالي الوفاض فارغ اليدين من السمك والمال. لكنه كان متفائلا على الدوام آملا أن يكون الغد أفضل من اليوم، وما نجا من الأسماك هذا النهار فلن ينجوَ في اليوم التالي من الشباك.
انقضى وقت طويل والصياد يتطلع مرة نحو السماء، ومرة أخرى يراقب شبكته التي تغوص في أعماق البحر، والجزيرة المحرمة الخضراء تلوح أمام ناظريه، يتلألأ خيالها ويبدو البحر من حولها ساكنا كسجادة زرقاء أتقنت صنعها عذارى فارسيّات. لكن تفكيره كان مشدودا إلى خيوط الشبكة الغائبة تحت سطح الماء، وخياله يرحل به إلى صانعة شبكته على أرض الجزيرة التي تتراءى له من بعيد.
غرق في أحلام اليقظة وتلك البحار العميقة، وما يدور حول الجزيرة الساحرة وهاتيك النساء الفاتنات.. الجزيرة المحرمة على أمثاله من الرجال، وموج البحر يداعب قاربه فيغويه ويحرضه على المزيد من العيش في عالم مسحور بأجمل الأحلام، ويصور له من صنعت شبكته بيديها حورية من حوريات البحر أو ابنة من بنات الشمس، فتحمله معها إلى عالم خال إلاّ من رحيق الكائنات التي تعيش في عالم الأرواح ولا تأتيه إلاَّ في المنام، وخياله الخصب يتوجهه سلطانا على نساء الجزيرة وملهمته صانعة الشباك.
ما انفكت هذه الأفكار تراوده فتعصف في رأسه وتدور فيه كدوامة البحر، والأسماك من حوله تقهقه ساخرة منه ومن أفكاره وهي تتقافز صاخبة على سطح الماء، لتصرفه عن رزقه والاهتمام بشبكة الصيد. عذبته ثم غلبته رغبته لرؤية هاتيك النساء الساحرات، فيمم وجهه وتسلل بقاربه نحو الجزيرة في ليلة ليلاء.
كان الظلام موشحا بالأنوار، فالقمر كان بدرا، وضوء النجوم يضفي سحراً على سحر المكان، والنسيم رقيقا كالعواطف يداعب أوراق الزهر والشجر ناثرا قبلاته وتنهداته هنا وهناك، والسكون يخيم على كل الجزيرة إلا من صوت حورية تطلق صوتها بغناء رخيم كأنه مقبل من صوب السماء، فتتحرك له كوامن النفوس ويرتفع معها وجيب القلوب.
تجسس عليها من خلف شجيرات توت مثقلة بالثمار. دنا على رؤوس أصابعه أكثر فأكثر..؟ فإذا هي حورية من نور الطبيعة الأزلي. بشرتها بيضاء كالعاج وفي عيونها سحر ودلال، فبدا له وكأن وجهها يعكس نور القمر. خفق قلبه بشدة لمرآها وراح لساعات طويلة يراقبها ونفسه تصبو إليها بسعادة وهيام عظيم. وحينما أحست أن أحدا يراقبها توقفت عن الغناء، والتفتت إليه بجيد يشبه شمع المعابد تراه تحت مصباح منير.
ألقت عليه نظرة ولهى حرَّكت خاطره وألهبت فيه كل خيال. ضاع صوابه من نظرة واحدة فأنسته نفسه والعالم من حوله. بقي مذهولا ساكنا يتأملها بخشية وصبابة وانبهار، كمذنب ينتظر قضاء ربه يوم الحساب، حتى ذهلت مثله وصار حالها كحاله. سأل نفسه من يكون هذا المخلوق البديع..؟ الذي لم يخفق له القلب اضطرابا ولا انجذبت إليه الجوارح كما يحصل للبشر؟ بل كانت الفطرة وحدها تشدها إليه، ونفحة حب سرت في جسمها جعلتها تهرب من سحر عينيه.
دأب الصياد على التسلل إلى الجزيرة، واستمر يزورها ليلتقي بفتاة النور وهما متباعدان صامتان. تعرفت الفتاة إلى خفقة القلب وسعادة التقاء العين بالعين، ونشوة من نوع مختلف كحال امرأة لم تذق طعم الحب من قبل، حتى غلبه شوقه ذات يوم فوقف أمامها بشجاعة العاشق الملهوف، وقفة المعجب المبهور ولسانه عاجزعن النطق عمّا عساه يفعل أو يقول.
اقتربت منه تترفق في أعطافها ومشيتها وهي تبتسم لمرآه، لتتعانق الأيدي ويلتقي الفم بالفم والصدر يرتاح على الصدر فتتجمد بسمتها وتختفي فجأة عن ناظريه، وتتحول إلى قطرات ماء صغيرة صعدت بخارا نحو السماء فاندثرت وتلاشت في الفضاء. خاف الصياد وفرّ مقطوع النفس عائداً إلى كوخه على الشاطىء بسرعة البرق.
بدأ المطر ينهمر بغزارة حينما اخضرت الأرض، وفاحت رائحة الزرع والشجيرات الصغيرات، وقد تبدلت طبيعة المكان أمام كوخ الصياد وتحولت إلى مرج أخضر، حيث نمت شجرة ساحرة وارفة الظلال تلاصق جدار الكوخ. كانت شجرة عطوفا إذا مر بها الصياد خجلت وأرخت عليه سدولها ليرتاح في ظلالها من تعب النهار. وإذا جاع أطعمته من ثمارها فاكهة لا أشهى ولا أطيب. تبدلت معيشة الصياد وتحسنت أحواله من جديد بفضل غلتها وما يجنيه من المال من بيع الثمار.
أعجب أهل القرية بالشجرة واعتبروها شجرة مباركة نادرة، ولم يدرك سرها إلا حكيمة القرية وعجوزها. قالت العجوز للصياد: إن شجرة كهذه هي تصديق لنبوءة قديمة عن عشق بنات النور اللاتي تملك الواحدة منهن ثلاثة أرواح. النبوءة التي كانوا يتداولونها من قديم الزمان. والآن تتقمص فتاة النور الروح الثانية التي تتجسد في الشجرة.. فلو اعتنيت بها وأحببتها لأحبتك بصدق وعادت إليك كما كانت.
أما إذا استسلمتَ لأنانيتك كما قالت الحكيمة العجوز، وعدم الوفاء لها وخيانة حبها وغمدت خنجرا في صدرها ستموت. لقد غزا الهوى قلب ابنة النور ونال منها، فكن عظيما معها لتتبارك بحب عظيم فتنمو وترتفع حتى تبلغ أعالي السماء..؟ أو سيضيع حبها منك وتظل أنت حيثما كنت، أو لعلك تهبط على طريق مخيفة الانحدار نحو هوة بلا قرار. تذكر جيدا لن تنجو ابنة النور إلا إذا غرقت مثلها في الحب. هكذا اعتنى الصياد بالشجرة واستفاد من ثمارها وظلالها، وجنى المال بفضلها وبنى بيتا جديدا بجانبها وتزوج إحدى بنات القرية.
لم تمضِ سنوات قليلة على حياة الشجرة، حتى مرضت زوجة الصياد واحتاج زوجها لعلاجها إلى مال كثير. ولما لم يكن الربح من بيع الثمار وحده يكفي لتغطية نفقات العلاج..؟ فقد تقدم أحد أثرياء القرية يطلب من الصياد أن يبيع له الشجرة. شجرته الحبيبة مقابل مال كثير. فكر الصياد طويلا حتى أوجعه رأسه من شدة التفكير. ما العمل والمال الذي يجنيه من بيع الثمار لا يكفي لتغطية نفقات العلاج. كان صوت الوفاء لابنة النور يقلقه مرة والحاجة إلى المال تحرضه آلآف المرات.
ما انفك يفكر حتى تجسدت صورة أفكاره أمام عينيه تحرضه على بيع الشجرة قائلة له: إذا بعت الشجرة العجيبة فسوف تكسب المال الكثير ما يكفي ويزيد لتغطية نفقات العلاج..؟ فالشجرة سحرية وثروة كبيرة في نظر الجميع، مثمرة بلا انقطاع والعروض لشرائها مغرية إلى حد بعيد. قيمتها تساوي كنزا كبيرا لمن يشتريها وعليه أن يدفع المال الوفير، وقلب الشجرة حنون سيغفر لك ويسامحك. بعد تفكير متعب وطويل غلبته حاجته إلى المال ولم يكن أمامه من سبيل إلا أن يبيع الشجرة.
هكذا أبعد الصياد عن خاطره وتفكيره صورة ابنة النور وكلام الحكيمة العجوز، فباع الشجرة وأنفق معظم مالها على علاج زوجته المريضة، والباقي من المال أنفقته الزوجة على حالها. وهكذا مرة أخرى عاد الصياد إلى حاله القديم واستأنف من جديد عمله على المركب العتيق، ليتذكر ماضيه وليلة القدْر والحظ السعيد الذي وافاه حينما جمعه بابنة النور.
ابنة النور التي عاش بفضلها أحلاما وسعادة لسنوات طوال لكنها لم تكن لتدوم إلى الأبد. والشجرة لم تبقَ على حالها فجفت أوراقها ويبست أغصانها وصارت مجردة من ورقها الأخضر ولا تصلح إلا حطبا للنار. زارها الصياد بعد انقطاع طويل فدبت فيها الحياة وقد أضناها الحنين فعادت عند رؤيته تنبض من جديد. عرف الصياد أن روحا تدب فيها فعمد ينقب وينبش الأرض بيديه.. ليجد لؤلؤة صغيرة الحجم مخبوءة تتوهج في الظلام. تلك هي روح ابنة النور تعود مرة أخرى للظهور.
وحينما حملها إلى بيته بين يديه زادت توهجا وإشراقا. فكر في نفسه كمن يقول لها : لو اعتنيت بها..؟ لعادت إلى حالها كما أكدت لي الحكيمة العجوز. لقد توهجت روحها الساكنة في اللؤلؤة وزادت وميضا تغشو من شدته العيون، فارتسم الأمل على محياها جمالاً منقطع النظير. عادت بذرة الحياة في روحها تنمو وتزهر مرة أخرى. الأمل وحده من أعاد الحب إلى روحها، فتعالى نبضها وعاودتها دقات قلبها لتحيا من جديد.
بدأ مرة أخرى يلوح في أفق زوجة الصياد الترف وحاجتها إلى المال، وبدأت نفسها تضيق عليها من جديد. أعماها الطمع وحرضت زوجها على بيع اللؤلؤة،. نكَّدت عليه عيشه وألحت بطلبها حتى كاد ينهزم أمامها الصياد المسكين. حمل اللؤلؤة في جيبه في اليوم التالي وغادر مبكرا إلى الشاطىء ملجأه الوحيد. أبحر في مركبه مسافات طويلة فألقى شبكته وراح يتأمل الماء وهو يفكر بما آلت إليه أحواله وفي فقره بعدما استمتع بقدر من الرخاء السعيد.
ذاق السعادة مرة مع اللؤلؤة وابنة النور، فلم لا يذوقها مرة أخرى.!؟ أخرج اللؤلؤة من جيبه ليضعها على كفه كمن يعتذر لها راجيا عفوها وسماحها عازما على بيعها من جديد. كان يخاطب نفسه بأن لؤلؤة كهذه تنبض وتتوهج وترتسم عليها أحلى الصور ستدر عليه المال الوفير.
لم يوفق بصيد ذلك النهار فلمَّ شبكته قانطا من رحمة البحر، واتخذ قراره ببيع اللؤلؤة عندما يبلغ حانوت المرجان على الشاطئ. هكذا سيعود إلى بيته في المساء مثقلاً بالدنانير، وزوجته ستفرح به وهو يقول لها: لا صيد بعد اليوم يا زوجتي العزيزة. وضع اللؤلؤة على كفه يتأملها ويودعها للمرة الأخيرة بحسرة القلب الكسير..؟
سالت دمعة من روحها العاشقة وفاح منها عطر رائحة من البخور. ثم تصاعدت دخانا خفيفا من بين أصابعه فارتفعت روحها وتلاشت في الأثير. فتح كفه مذعورا فإذا اللؤلؤة تحولت إلى حجر أصم خاليا من كل أشكال الحياة. فارقها النبض وتدحرجت من يده لتغيب عن ناظريه وتسقط في قاع المحيط.. حصاة يابسة خالية من الحس والروح.
كانت ميدوسا مع أختيها سثينو و اوريال، يعشن في العتمة على أطراف الكون، حيث لا تصلهن أشعة الشمس ولا ضوء القمر. ميدوسا التي مارست الجنس مع إله البحر في المعبد، وادَّعت أنها أجمل وأطول شعرا من أثينا، ما أثار غضب الإلهة فمسخت الأختين وحولتهما إلى هيأة منفرة كالوحوش. لكنها أبقت على وجه ميدوسا الفاتن الجميل، تغوي به الرجال وتحولهم إلى حجارة خرساء تشبه حجر حكايتك يا إيناس.