فوق بساط أخضر أتقنت صنعه أيدي رب السماوات، ونسجته من مشاعر حوريات في الفردوس. حملته ملائكة السماء وفرشته مرجا حالما على الكون، لتغفو الأرض الفسيحة في طبيعة مدهشة بما حباها الله من الروابي والتلال، ومن السهول والبحار والوديان. طوت ملائكة الرحمن البساط كما الكنز أو كسجادة سندس خضراء لتفرشه وتزين به أديم الأرض.
حمل السجادة آدم عبر السماوات، بعد أن طرده ربه من نعيم الجنة وأنهار العسل واللبن، بسبب الأفعى وشجرة التفاح وما فعله آدم وحواء، ثم بنى آدم لنفسه عالما جديدا على كوكب الأرض، فاستعاد نفوسا سليمة وقلوبا طاهرة رضيَّة، مجبولة على المحبة والتسامح والسلام.
هكذا بين الينابيع وجداول مياه رقراق، راحت حواء تتسلل وتزحف بين الشجيرات، ونسيمات منعشه تدغدغها تحاكي صفاء الأرواح، وخمائل أشجار ساحرة وحدائق غناء، مرصعة بالورد والبنفسج والأقحوان، وبديع الزهر الملون وشذاه الفواح، والبلابل طروبة ترفرف فوق السطوح، تتمايل أجنحتها بالرقة والمحبة والحنان، والحساسين عند الصباح تنافس رصانة النحل وروعة ألوان الفراش، ترافقها خرفان ونعاج بيضاء كالثلوج على قمم الجبال.
كبرت وشبَّتْ وترعرعت، ولا تعرف بين يديها معنى دمية صوفية منفوخة الخدين، ولا اللعب بعروس هيفاء القد ذهبية الشعر، جورية الشفتين فاتنة العينين ساحرة الثياب. كانت أكثر ما تجهل معنى البحث عن أشجع الفرسان، يطير بها على صهوة حصان مُطَهَّم أبيض، ويلقي على مسامعها قصائد المتيم الولهان.
فلم تعثر على ذاتها في غير الطبيعة العذراء، تشدها وتغريها بالمحبة والرأفة والحنان. وقلبها مشغوف باكتشاف مخلوقات الطبيعة والتعرف إلى الأسرار، فتتعلم فلسفة الدنيا وبهجة الحياة، والترفع عن الصراع وحب الجاه والمال، أو الموت من أجل الوصول إلى التيجان، والمزيد من البحث عن الأوهام كما يفعل سائر بني الانسان.
مع كل صباح كانت الطبيعة تغريها بلمسة عشق، وتحمل إلى يومها روحا جديدة، فيزهر قلبها وينشط عقلها وتلقي بنفسها بين أحضان الغابات، فتجس بحواسها كل جديد؛ عدسة في يمينها تطالع فيها يرقات الفراش والحشرات الصغيرات، والبراعم وأوراق النباتات.
لكأنها ألون قوس القزح تتشكل تحت العدسة، أو فوق سطح الماء؛ أو تطارد الجنادب بسيقانها الطويلة الرشيقة حافية القدمين، وتتبع أسراب النحل النشيطة وإذا ما أعياها الركض والدوران؛ ارتاحت تحت شجرة جوز وارفة الظلال تستنشق أنفاس النبات، وتنصت بسمعها وقلبها لأنغام النسيم في البراري والحقول.
مضت ذات حين إلى منزل صديق لها في الجوار، يومها رأيا قمريا رصاصيا وقمرية برتقالية اللون، يغردان معا ويتبادلان أدوار الغرام. وتضع الأنثى بعدها بيضتين رائعتين احتضنتهما بلهفة شوق الأمهات، وها هو يحل الموعد المنتظر لتفقيس البيضتين وخروج الفرخين إلى الحياة، فامتلأت نفسها باللهفة والشغف وأسرعت للتعرف كيف يكون حال المخلوقين الجديدين..؟ ما شكلهما والزغب الأبيض لا يستر جلدهما بعد، وتأملت حجم منقاريهما ولونهما الزهري يميل إلى أحمر الشفاه.
وفيما كانت ترى رب الدار خارجا إلى عمله؛ تقدم نحوها ابنه زميلها على مقاعد الدراسة، وتصوَّرَتْه يترقب بشغف إشراقة الفجر في عيون الفرخين الجديدين. تقدم منها وخاطبها بقوله: أتعرفين كيف هو شكل الضيف الجديد واسمه ما يكون؟ فهزت رأسها بالنفي وقد تكلفت العبوس قليلا، وهي تنصرف عن الحديث معه إلى التفكير، من هو وكيف يكون الضيف الجديد..؟
بعد برهة من الصمت الثقيل والتحديق في عينيه الفضوليتين. تقدم منها مربكا وعيناه تراوغان كعيون ثعلب مكار، وتذوبان خلف الربوة عند شمس الأصيل. قال لها: في الحظيرة الخلفية ديك مدهش الشكل زاهي اللون منفوش الريش، لم أرَ في يوم من الأيام مثل عينيه اللامعتين. عُرْفُهُ العالي كأنه تاج من الياقوت، وله ذيل عجيب لا يقل عن جمال وأناقة الطاووس. يمشي مختالا بين دجاجات الحظيرة. يأمر وينهي فيطاع بلا شكوى ولا اعتراض، فتعالي بنا نشاهد معا هذا الديك المتعالي بريشه المنفوش.
ومضت برفقته إلى الحظيرة، بلا شك في نواياه أو سوء تفكير. لم يكد يبلغ الباب حتى أشار لها بيده إلى ركن قصي في الحظيرة وقال لها: انظري إليه إنه هناك..؟ وعندما أدارت وجهها حيثما أشار لترى الديك..؟ هوى على ثغرها يقبلها، فدفعته عنها وارتد قليلا إلى الوراء، ثم تسمر في مكانه صامتا مصدوما لا يدري ماذا يفعل أو يقول..؟
لم يكن في الحظيرة أي ديك أو دجاج..! فابتسمت له بمكر وأشارت له بطرف عينها أن يدنو منها قليلا.. فأشرقت أساريره واطمأن إلى رضاها والقبول، واتسعت شفتاه ببسمة ماكرة ودنا منها، حينما عاجلته بصفعة على خده وقالت له: أرأيت بعينك كيف يكون حال الفرخة والديك..!؟ وحينما ولّى هاربا وقفت نادمة في باب الحظيرة، وتمنت في أعماقها لو يعود إليها.. ويكرر محاولته من جديد.
0 تعليق