عندما عاد من عمله في ذلك المساء، انقض عليها كوحشٍ كاسر، دون أن يُميز كيف يبدأ بالتهام فريسته.. وكانت ترتجف بين يديه كفراشة ترفرف بأجنحتها طلبا الخلاص..
انهال عليها بكفه العريضة في كل موضع من جسدها! سحق ذراعها بلكمة وتبعتها ضربة اخرى على رأسها، سقط منديلها فشدّها من شعرها المسترسل الناعم، وجرّها حتى الباب متجاهلا صراخ وعويل أولادها الصغار..
– يا كلبة، كيف تجاسرت أن تتحدثي مع رجل غريب؟ أيتها الحقيرة الخائنة! كل النساء خائنات، هذا هو الشيء الوحيد الذي تأكدت من حقيقته الآن..!
تشبثت برجليه، وتوسلت: أرجوك، دعني أشرح لك..!؟ الأمر ليس كما تظن؟
ولكنه أقفل نوافذ أذنيه كما أقفل نوافذ الرحمة في قلبه! ووقف على عتبة الباب، متمنياً أن يسمعه كل سكان الحي، وراح يصرخ بأعلى صوته:
– أنت طالق، طالق، طالق، أنا برئ منك إلى يوم القيامة!
الآن سوف أتصل بأخوتك، ليضبّوك من الشارع! وفي المحكمة سوف أصفي حساباتي معك ومعهم!!
ودفعها فرماها خارج البيت ككيس قمامة، يريد أن يتخلص منه صاحبه بأسرع وقت!
تحسست غطاء رأسها، عندما أقبل أخوها الكبير الذي التقطها عن الرصيف، وأمرها أن تركب السيارة بسرعة البرق، قبل أن يتشفّى ويشمت الجيران بعاره الذي ذاع على الملأ..
تكورت كطفلة مسحوقة في المقعد الخلفي، دون أن تجرؤ أن تنطق ببنت شفة! كانت ترتجف كعصفور يرتجف تحت المطر.
نظر أخوها إليها في المرآة وقلب شفتيه، كطفل صغير يُريد ان يبكي وقال لها وهو يتوعدها:
– يا كلبة! سترين ماذا ينتظرك عندما نصل..؟
سحقا.. ماذا ينتظرها أسوأ من ذلك!؟
ألا يكفيها زوجها الظالم، الذي استغل ضعفها الجسدي، لينهال عليها بهذه الوحشية! هذا السيناريو الذي تكرر عشرات المرات أمام أولادها الصغار، الذين تعقدت نفسياتهم، لم يسأل عنه أهلها؟ والآن وعندما اتهمها بالخيانة..! هرول جميعم لينتقموا ويمسحوا الأرض بها!
عند وصولهما إلى بيت أهلها، دفعها اخوها إلى الداخل برفسة من رجله المُتمرسة، واغلق الباب خلفهما بسرعة خوفا من ان يرصدها أحد الجيران بهيئتها المُزرية!
كان والدها جالسًا ينتظرها وهو يقضم اظافره بعصبية ويبصقها في الهواء..
يا عيب الشوم عليك يا مها..! قالها بصوتٍ أجش اقرب للبُكاء، انت الفتاة المثقفة المتعلمةُ، بنت الأصل والإصول! “تُوطين راسي وراس إخوتك وراس العيلة كلها.. وتدسينها في التراب..؟”
“بنت صغيرة..؟ تنجرفين ورا قلبك، ويضحك عليك رجل وضيع؟ يا فاسدة! متضايقة من جوزك احكيلنا، احكي لاخوتك وهني بيعرفوا حسابهم معاه، اما انك تحكي من ورا ظهره مع رجل غريب! فهذا مش مقبول علينا؟ فهمتِ! أنا لم اعد اباك، أنا بريء منك إلى يوم القيامة! وهجم عليها ليوسعها ضربا ورفساً!
أزاحه عنها اخوها الكبير وزمجر: – والله سأشرب من دمك! لو تموتي أهوّن علينا؛ البلد كلها عم تحكي علينا، اللي بيّسوا وما بيّسوا، وإنقض عليها بلطمة قاسية، جعلت شفتها السفلى تنزف وتتضخم بسرعة..
أسرع أخوه الاصغر وأزاحه عنها، وقال له:
– أنا الذي سأُصفي حساباتي مع هذه الكلبة! أنت رجل حكومة وسيطردونك من وظيفتك اذا اشتكت عليك!
انخرطت مها في بُكاءٍ مرير، بكاء المقهور من المظالم! أهي تشتكيّ للبوليس، وعن من..؟ عن إخوتها..! نعم؟ إنهم إخوتها، تاج رأسها حتى ولو نسفوا جمجمتها، لن تشتكيهم لأحد! وهل العين ترتفع فوق الحاجب؟
لطالما أطلّت عليهم “كسانت كلوز” مُحملة بالهدايا والمُفاجئات، لطالما حملت همومهم وفرّجت ضائقتهم، والآن ينهالون عليها كشاة ذبيحة، يتناوب على تقطيعها، جزّارون مُحترفون!
مسكينة أنت يا مها! حتى أمك في هذه المحنة القاسية خانتك!
وبدأت تردد أسطوانتها المألوفة التي حفظتها مها عن ظهر قلب:
نامي زعلانة ولا تنامي ندمانة! كم مرة قلتلك إياها يا مها!
لم تفكري في ولادك؟ لم تفكري في سمعة عيلتنا الطيبة!
نسيتِ أنه سوق النساء البخس! والمرأة تطير على كلمة من بيتها..
وإنو ارجعي عَ ظهرك ولا ترجعي عند أهلك!
ومطلقة على شو..!؟ على سُمعة! مين هذا اللي يستاهل إنك تخسري ولادك عشانو؟
قوليلنا من إبن هالحرام، إللي لِعب في عقلك يا مُغفلة؟
– ولكنني.. تمتمت مها..
– أسكتي.. لا تدافعي عن نفسك! الناس لن يصدقوا شيئًا، ونحن لن نصدقك، لا دخان بدون نار! كيف سنواجه العالم!؟ ماذا سنقول للناس..!؟
مها المرأة الاستثنائية، ثمة احد لن يصدقها، حتى ولو أقسمت مليون يمين! صحيح أنها لم تُخلق من تُراب القمر! ولكنها امرأة من ذهب أربعة وعشرين قيراط، مُلتفة، وبيضاء، تحمل عذوبة النسيم، وحلاوة السكر..
وهي ليست مُغفّلة كما يقولون عنها! بل هي إمرأة مُتعلمة، مثقفة، مُتفانية في عملها، أغدقت عاطفتها الجياشة على كل من حولها، دون ان تدرك..؟ أن هذا المجتمع الفقير من العواطف والمشاعر الإنسانية، سيبصقها كمضغة عسيرة فقدت كل خواصها، لأنها فضفضت عن بعض همومها، لأحد زملائها في العمل، الذي أزاح عن صدرها كثيراً من جبال الهمّ، بعد ان لاحظ آثار صفعة زوجها، على رُخام خدّها الغض، ولكنها.. وضعت له حدًاً عندما بدأ يتمادى..
تبا لمعشر الرجال، لا يجيدون إلاّ الاصطياد في المياه العكرة!
وهي إمرأة شريفة عصامية، صدّته بكل قوتها..
وثمة أحد لم ينكر أنها عانت كثيراً من زوجها! وأنه كان يضربها حتى أمام أولادها، وأنه أرادها ان تكون آلة لطباعة المال، وأنها عانت من الحرمان المادي والعاطفي، وأنه كان يغار عليها كثيرًا.. وأنها أرادت الطلاق اكثر من مرة، ولكن أهلها هددوها بأنهم سيستقبلونها، لوحدها، بدون الأولاد!
مها صبرت على كل شيء من أجل أولادها. الذين كسروا ظهرها!
صحيح أنهما عاشا تحت سقف واحد، ولكنهما عاشا كالأغراب، وهي كانت تحترمه كثيرًا، غطت رأسها وكل سنمتر على جسدها الجميل، من أجله، تنازلت عن عطرها وزينتها.. من أجلهُ..
وأصبحت كما أرادها، إمرأة مشمعّة ومغلّفة بالنايلون!
وهو سامحه الله، نسي ان كل ما تحتاجه مشاعر أي امرأة هو الاحساس بالأمان وبعض التقدير!
ولطالما ردد امام أصدقائه: أنصحكم بان لا تتزوجوا إمرأة تفوقكم ثقافة! لكي لا تتفلسف عليكم!؟ وهي قطعًا لم تشعره بهذا.. ولكن اقترانه بإمرأة تفوقه علمًا وثقافة، جعله يُعاني من عقدة النقص في مجتمع ذكوري محض..
تبًا لزوجها ولهذا المجتمع المادي والرجعي؛ إذا ذهبت المرأة للتعليم، إتهموها بالتفتح! وإذا لم تتعلم يقولون عنها مُتخلفة! وإذا خرجت للعمل، اتهموها بأقبح الأقوال! وان لم تعمل؟ قالوا عنها عديمة المسؤولية، وعالة على زوجها وأهلها..
مر كثيرٌ من الوقت، ومها حبيسة غُرفتها تبكي..
كان دمعها ينساب على صفحات ذاكرتها من شدة القهر، عندما تذكرت كلمات زميلها المعسولة، التي كانت تمشط أهداب روحها، وهي التي لم تتعود على سماع كل هذا الكلام!
عندما تغيبت أحد الأيام عن العمل، همس لها:
– قلبي لم يعد يخفق بغيابك!
وهي حتمًا تجاهلته واستمرت بعملها، ولكنه فتح قاموس حبه حقولا من الخداع، وكلمات لم تسمعها قط من زوجها الغبي الظالم! كلمات..؟ أحيت فيها الأنثى التي ماتت..
وهي لم تنزع عن نفسها خمار الحياء، ولم تلعب على سبعين حبلاً كما اتهموها! ولكن هذا الرجل الوضيع، استغل وضعها العائلي وخلافاتها مع زوجها، ليدخِلَها في دوامة ثانية، دوامة قررت أنها ستخرج منها بأي ثمن!
وتذكرت نصيحة إحدى صديقاتها:
– أطلبي من زوجك الطلاق، واخرجي من بيتك بكرامة، أفضل ما تحكي مع رجل آخر من ورا ظهره!
ولكنها لم تجرؤ ان تخبر أحدًا، عن هذا الرجل الحقير.. الذي بدأ يلاحقها كخيالها..
وهي لم تستسلم إليه أبدا.. ولم تنس إنها امرأة متزوجة وأنها أم وعليها تقع مسؤولية أولادها، وأنها إبنة عائلة عريقة ومعروفة! وأن أية غلطة منها، ستجعل سمعتها كمئزر المطبخ، يتمسّح فيه الجميع..
وفي اليوم الذي قررت فيه، ان تنال إجازة مفتوحة، لأنها تنوي التنازل عن وظيفتها الحساسة، ذات المرتب المحترم، خوفا من وقوعها بالخطيئة والحرام.. وخوفا أن تتحول سمعتها إلى علكة يلوكها أناس لا يعرفون الرحمة، فوجئت بزوجها ينهال عليها، بالضرب المبرّح، ويرمي عليها يمين الطلاق دون ان يفكّر مرتين..
لم يُغضب مها قرار المحكمة السريع الذي أرسلها له زوجها بالتوقيع على الطلاق، فهي توقعت هذا منذ أمد طويل! ولم يغضبها أنها خسرت حضانة أولادها، ففي كلتا الحالتين كانت ستخسرهم، بسبب زواجها الفاشل! ولا أنها ستخرج من بيتها بزيق ثوبها، فهي تدرك جيدًا أنها لم تفكر قط بخيانته! ولم تُقصّر قط في حقّهُ، أو تشترِ شيئا ارهق جيبه أو تتفوه بكلمة استفزّت طبعه!
ولكن كل ما أغضبها وخيّب آمالها أن “فاعل الخير” الذي وشى لزوجها، كان زميلها الوضيع ، الذي وإن نجح في سلبها حياتها العائلية التي كانت تُقدسها، وثقة أهلها وإخوتها، وإحترام المجتمع، ولكنه لم ينجح في سلبها شيئًا تستحيل الحياة بدونه..؟ شيء أسمه الشرف..
“القصة مُختارة من مجموعتي القصصية “دموع لم تسقط”
وصف دقيق، مؤثّر، ورائع لبعض ما نعانيه في مجتمعنا.
بوركت سيدتي المحترمة والكاتبة القديرة شهربان معدّي
“مها المرأة الاستثنائية، ثمة احد لن يصدقها، حتى ولو أقسمت مليون يمين! صحيح أنها لم تُخلق من تُراب القمر! ولكنها امرأة من ذهب أربعة وعشرين قيراط، مُلتفة، وبيضاء، تحمل عذوبة النسيم، وحلاوة السكر”:
روعة سردية واقعية آخاذة وجاذبة ومؤثرة… حيث تلخص حياة المرأة الجميلة المثقفة العاملة وذات الأخلاق الرفيعة في مجتمع متخلف متحامل بل يكاد يكون “مقرفا ويثير الاشمئزاز”!
يقال أن المرأة تعشق من أذنيها… و”مها” بطلة القصة كغيرها من النساء
تتوق إلى سماع حلو الكلام..تحب الاهتمام إلى أبعد الحدود
وتحتاج إلى المحبة والحنان والإحتواء
والرعاية والتعامل باحترام ولطف..
إلا أن الجهل مازال يعشش في عقول مجتمعنا
فإلى يومنا هذا تحرم بعض النساء من بعض حقوقهن الطبيعية في الحياة..
كحقها في التعليم أو العمل..
وتعاني من ممارسة السلطة الظالمة عليها.. كإجبارها على الزواج من شخص تختاره الأسرة..أو اغتيال طفولتها وتزويجها وهي قاصر..
وهل تصدقين ياصديقتي أن هناك من تحرم حتى من حقها في “شم الهوا..و اختيار ملابسها..”؟
وبلا مبالغة تعيش في منزل أشبه بالسجن.. تغطى نوافذه ستائر ثقيلة
ويحرص على بقاءها مسافة بعيدة عنها فلا تعرف كيف يكون نور الشمس؟..
حتى لا تراها عيون العالم، ولا تخرج من منزلها إلى للضرورة.
حياة المرأة في مجتمعنا ومماتها قائم على مسألة شرف الجسد وحده..
وعذريتها فقط من تحدد مستقبلها وسنوات عمرها المسموح لها بعيشها في هذه الأرض فخيانتها عار وخطأها يعني قتلها بدم بارد
ومبارك من العائلة والمجتمع.. يفلت منه القاتل دون عقاب..
بينما خيانة الرجل نزوة.. وخطأه مغفور بلا حساب وعقاب
حتى في قضايا الاغتصاب تلام المرأة قبل الجاني ..ويتسائل الجميع
عن كمية العطر التي سكبته على جسدها..؟
ونوع الثياب التي كانت ترتديها..؟ وعن قت خروجها؟
والسبب الأول في اعتقادي يعود إلى تربية الوالدين وتفرقتهما العنصرية بين الولد والفتاة
شكرا على النص الواقعي شهربان..فكم نحن بحاجة شديدة إلى تغيير جذري لعقولنا واجتثاث أفكارنا من جذورها
“من لي بتربيةِ النِّساءِ فإنها
في الشرقِ علةُ ذلك الإخفاقِ
الأمُ مدرسةٌ إذا أعدَدتها…؟
أعددتَ شعباً طيّبَ الأعراقِ”
لم تخلُ قراءتي للقصة من السُّخط.. والنقمة، ولم تكن الكاتبة خالصة البراءة منها أو على الحياد، ونحن نعيش في زمن مختلف، بات يحتاج فيه بعض الرجال إلى الحماية! ومجرد الحديث مع رجل غريب ليست إدانة أبدا، أو تهمة تستحق النيل من شرف الضحية ومن جاهِ العائلة، ولو في أشد المجتمعات “رجعية” أو محافظة، ومغفرة العاجز عن بلوغ حقّه لا معنى لها! جملة هذه الإشارات استفزتني حقيقة وأثارتْ حفيظتي، ولعلها من زاوية ما أتت لصالح القصة والكاتبة!؟
في قناعتي ومن دواعي إصراري بعيدا من الخشية والحرج..؟ أن امرأة مسحوقة ك – مها (أنا) نصيرها بغضب كبير وتواضع أكبر، وأشهد أن من حقها أن تتمرد على التربية المجحفة، وموروث المجتمع المنافق الظالم وتنتقم من زوجها، وتنسجم مع زميلها حتى دون أن يغرِّر بها أو يستدرجها..! لعلّ الزوج الموقّر يتَّعِظ فيعلِّم غيره.. ويتعلم..؟ وليس من الإنصاف أبدا أن نساوي بين الضحية والجلاد، وبالتالي فلا يحق لأحد أن ينتقدها أو يشهِّر بها..! ما دامت النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والبادىء أظلم..!؟ أليس هذا ما حرصت عليه مجتمعاتنا ونادينا به دائما.. وأبدا..!؟
ولو أن التشريعات تتحسن بمرور الزمن وتغدو أكثر إنصافا، ليبقى الأهم السلطة القادرة على تنفيذها لحماية المرأة والرجل معا. ومن هذه الزاوية؟ فلم يمض وقت طويل على استقالة عضو الندوة النيابية نواف الموسوي، من البرلمان اللبناني ليرفع الحصانة عن نفسه، ويتولى الدفاع عن حق ابنته المطلقة لحضانة طفليها، خلافا للتعسف في بعض الأحكام التي شرَّعتها السلطة الدينية، وربما أتت الاستقالة لأسباب إضافية مختلفة، ودواعٍ سياسية لا تتعلق بجوهر المسألة.؟
مهما يكن الأمر؟ فأنا أحفظ في قلبي مودة وتقديرا لشهربان الصديقة الكريمة، وأرجو النجاح لها ودوام التوفيق لحكاياتها.
شكرًا لعطر مرورك..
د أحمد الراقي
كم يشرفني حضوري بينكم..
والتواصل مع حضرتكم.
وكم ترتقي نصوصي..؟
عندما يكحلها ألق عيونكم..
وتسبر أغوارها عقولكم النيُرة.
مها ليست أول امرأة يسحقها مجتمع ظالم غبي..
ولن تكون الأخيرة..
مساؤك معطر بنسيم الشمال النديّ
الذي يلفحني من صوبكم.
أستاذي مهند النابلسي
الراقي، والناقد الموضوعيُ
نافذتنا المشرعة أبوابها
دومَا..
لكل شيء جديد، راقٍ..
مودرن، ينير عقولنا ويثير فضولنا
ويشجعنا على قبول الآخر المختلف.
شكرَا لعطر مرورك الكريم.
وشكرَا لحضرتك على احتواء قصتي
والتضامن مع مها الضحية؛ وغيرها مليون مها تعاني في بعض مجتمعاتنا العربية المتخلفة..
ولم يسمع بمأساتهن أحد.
أتمنى أن أبقى عند حسن ظنك
أستاذي الكريم.
صديقتي الغالية إيناس تابث
صباحك مُحلى بتين وصبّار الجليل
مُعطر بالجوري والحبق.
باقات حب وود أرسلها لك ولإخوتي القرّاء
مع هذه الدراسة الوافية لقصة ليلى الحمراء
التي تربينا وربينا بناتنا عليها..
ولم ندرك مغزاها إلا بعد دراستها في الأكاديمية.
“يا لعمق وضخامة صوتكِ!“ (لأحييك بطريقة أفضل)
“يا إلهي، يا لكبر عينيك؟“ (لأنظر إليك بطريقة أفضل)
“ويا لكبر يديك!“ (لأعانقكِ بشكلٍ أفضل)
“ويا لكبر فمكِ؟“ (لآكلك بشكلٍ أفضل!)
بعدها قفز الذئب ليأكل ذات الرداء الأحمر وينام بعدها في سرير جدتها بهدوء.
“ليلى الحمراء” هي واحدة من أشهر القصص في الأدب الشعبي العالمي بالإضافة لبيضاء الثلج وسندريلا. أول توثيق نصي معروف للباحثين في المجال، هو توثيق رجل الأكاديمية الفرنسي، شارل بيرو (Charles Perrault)، في منتصف القرن الـ17، كنص صالوني يُقرأ لطبقة النبلاء. بعد قرن من ذلك التوثيق، في بداية القرن الـ19، جمع قصة “ليلى الحمراء” الأخوان غريم (Jakob & Wilhelm Grimm) في احدى غابات ألمانيا، انما بصيغة مختلفة عن صيغة بيرو..
باحثي التحليل النفسي يضيفون بأن تحذير ليلى الحمراء من “أن لا تحيد عن الطريق في الغابة” أو “أن لا تسرع لكي لا تكسر المرطبان في الذي في السلة” أو حتى “لا تكلمي الغرباء”، هي تحذيرات خفية من العلاقات الجنسية لكي لا تفقد عذريتها. زد على ذلك أن في نهاية صيغة الاخوين غريم، تملأ ليلى الحمراء بطن الذئب بالحجارة، كرمزية للتعقيره بعد أن “حمل” في بطنه ليلى الحمراء وجدتها.
في تفسيرات جندرية ونسوية للقصة نجد أن الذئب، لا يمثل فقط الذكر المهدد لعذرية الأنثى أو لسلامتها، انما يمثل المجتمع أجمع الذي يحد من حريتها ويفرض عليها قوانينه وحدوده. فلا يروض الذئاب ويلجمها انما يذنب الـ”ليلات” ويحد من حريتها. ذلك بالاضافة لعرض الإناث في القصة كضحايا، يهاجمها ذكر (الذئب)، وينقذها ذكر (الصياد). عرض يحول الشخصيات الأنثوية في القصة لشخصيات ضعيفة، هزيلة، وخاملة، لا تستطيع الدفاع عن نفسها بنفسها، ولا أن تفرض قوانينها أو شخصيتها، انما هي بحاجة إلى الرجل المنقذ البطل، الصياد.
.في العالم العربي، يتم استعمال القصة كأداة لصراعات سياسية ولنقد اجتماعي بناء بشكل كبير. فمثلاً يستعملها الرسام المبدع عمر عبد اللات بصيغة حديثة ويلائمها لواقعنا اليومي فيه ليلى الحمراء لم تعد تجوب الغابات، انما تجوب صفحات الانترنيت، لذلك فالتحذير ما زال نفسه، إلا أن نوع الذئاب وطريقة عملهم فقط اختلفت.إذاً في هذا النص عرضنا فقط طرف صغير من التفاسير والقراءات النقدية لهذه القصة الأبدية، التي ما زالت تحصل على صيغ حديثة لتتوافق مع التغييرات الثقافية في المجتمعات الحديثة. فهل يا ترى ستبقى ليلى تهرب من الذئب في مجتمعنا؟ أم أنها قد تواجهه يوماً؟ هل سنبقى نلقي اللوم عليها بأنه تكلمت مع الذئب؟ أم سنبدأ بترويضه؟
وفي الأخير هذا لا يعني أن كل الرجال “ذئاب” وكل النساء “ضحايا” وكم من رجال شرفاء عرفتهم عبر النت، وفي ميادين الحياة، كانوا لي خير إخوة وأصدقاء ومعلمين ومرشدين، تعلمت منهم الكثير الكثير.. وأولهم أستاذي الراقي ابراهيم يوسف الذي غمرني بفضله وعنايته.
شكرًا لتعقيبك البنّاء عزيزتي إيناس.
وللأستاذ بسّام وموقع السنابل الذي منحنا ذلك البيدر الخصب لننثر فيه أفكارنا المتواضعة.