شارون

بواسطة | 11 ديسمبر 2017 | قصص قصيرة | 0 تعليقات

– أمي أمي ما معنى الموت؟
– الموت!…..(بعد صمت) الموت هو أن تذهب إلى الله
– أنلبس ثيابا جديدة عندها؟
– لا، نلبس سوى الكفن، بني لما هذه الأسئلة؟
– كفن! ……مممممممم
مفكرا مضى يلهو مع أترابه وقد إستحوذت فكرة معنى الموت ولباسه الأبيض على عقله. لعب شاردا حتى إنه إنهزم في مقابلة كرة القدم على غير عادته.
– أمي، أمي أكلما لبسنا الأبيض نزور الله كما نزور جدتي؟
– أعوذ بالله ما بك يا ولد، إذهب إلى اللعب!
إستلقى على سريره مفكرا، كأنه يقلب كرة العالم فوق أصابع يده ولم يفطن، غائما معنى الموت أمامه.
بخطواته بطيئة خفيفة، إقترب من قن الدّجاج، فتح الباب بحذر ومدّ يده. كان بالقفص دجاجة وخمسة من صغارها. قبض على الأقرب إليه وضغط جيدا . إبتعد إلى آخر الحيّ وإنزوى بعيدا عن الأعين.
– يا صغير، كيف أجعلك تزور الله، أتلبس الأبيض أم تنام أولا؟
صمت مفكرا…
– لا! دقّ عنقه أولا ليموت ثم يلبس الأبيض!!!
إنتفض الصبيّ نحو مصدر الصوت فإذا به صديقه علي، الذي أردف قائلا: ” رأيتك تنسحب إلى هنا كأنك مقدم على أمر ما فتبعتك، دعني أساعدك في الأمر.” وأخرج وعاء وقارورة ماء مشيرا “سنجعله يغرق أولا!”
ملآ الوعاء ماء ثم أمسكا الفرخ وأغرقاه في الماء، رفرف قليلا وبصوت مكتوم إستسلم وإرتخى ثم طفا على الماء. أمسكاه ووضعاه في خرقة بيضاء، ثم حفرا حفرة بحجمه الصغير ودفناه.
– طلال! أرأيت، هذا هو الطريق الوحيد لزيارة الله بلا عودة!!
أطرق طلال، مشى الهوينى مفكرا فيما فعل في الفرخ صحبة علي، أذهب الفرخ إلى الله؟ كيف كان اللقاء يا ترى؟.
إقترب من الزقاق الذي يسكنه فسمع صراخا وعويلا وقد تجمهر النّاس أمام بيت عمه. جرى متسائلا. قيل له قد مات عمه و البركة فيه!!.
إبتعد متفكرا…
قد مات عمي ليزور الله وهو يرتدي الأبيض، لكنه لن يعود. طريق بلا عودة كما قال علي.
تسلل نحو الغرفة التى يتم فيها تجهيز المتوفي، لكن الكبار نهروه بعيدا “إذهب إلى أمك يا ولد!!”. كان يحترق فضولا، ولا يجد مفرا من الإطلاع على أمر الموت. كان يدرك في قرارة نفسه أنه أمر جلل، أكبر من عقله و من حسه، أكبر من كل سنوات عمره القليلة وجسده النحيل. بقي ينتظر و لم يفهم أكثر مما فعله بالفرخ صحبة علي.
بعد أيام تسلّل ممسكا بفرخ أخر وإبتعد إلى أطراف الحيّ ليفعل به ما فعل بالأول. جعله يزور الله بزيّ أبيض وقبر صغير  مجاور للأول. في عشيّة ذات اليوم توفي عمدة القرية. حاول الإندساس مقتربا نحو لغز الموت، لكن تمّ طرده فإبتعد مسرعا على إيقاع لطم النسوة وعويلهن.
جلس مراقبا الجمع متسائلا “إن كنّا نحب الله فلماذا كلما زاره أحد من القرية تلطم عائلته وتبكي؟، ترى هل لأنه لن يعود مرة أخرى؟، لكنه ذهب عند الله وهذا أفضل سيعطيه كل ما يريد، لماذا الحزن و البكاء إذا؟ نحن نحب الله حقا لكني لا أفهم ما يحدث كل شئ يبدو متناقضا.”
في أحد الصباحات وهو جالس يفطر مع العائلة، نظر لأخته الصغرى الجالسة بوداعة في حجر أمه وقال “أيتها الصغيرة متى تزورين الله؟ متى تلبسين الأبيض كالفراخ الصغيرة؟”. حملق الكل مندهشا مصعوقا، ثم أمسكته أمه توبّخه و تضربه. من بين دموع طفولته الثائرة حكى لها مافعل. توعّدته بالعقاب القاسي لو سرق فرخ آخر. وإنسحب إلى غرفته حانقا مصمما على فعلها ذلك اليوم. خلال القيلولة وحين نام كل من في البيت أخذ باقي الفراخ .كتم أنفاسها وخنقها وحين سكنت لفّها جميعا في لباس أبيض ودفنها في حديقة البيت تشفيّا ورجع متلصّصا على أفراد عائلته. دخل بهدوء غرفة أخته النائمة ولفها بلحاف أبيض وجلس عند رأسها يتلو ما حفظ من آيات ثم تنحنح كالكبار وقال:
– الله يرحمها كانت ناس طيبة!!
ثم رقق صوته وأخذ يتباكى كالنساء ويلطم ثم إنفجر ضاحكا. أمه سمعت صوته فإقتحمت الغرفة هالها ما رأت ومتشائمة حسرت اللحاف عن البنت النائمة وجرّته خارجا موبخة
– ملا فال تجيب فيه مالصباح ياخي أش سمعت، متقوليش كملت قتلت الفلالس ملا مجرم نعاني فيه!!!
– سيبني، كي قتلك شنوة الموت ماحبيتش تجاوب!!
توارى باكيا و قدكبر به الحقد أكثر وتمنى لو يحل موكب الموت قريبا منه حتى يفهم اللغز الذي أربك عقله الصغير.
نام على أمل مصيبة..

 

أفاق على صوت أمه تلعنه وتضربه “لقد قتلتهم جميعا يا وجه الشؤم ليتك متّ مكانهم، أيها الغراب أخرج من هذا البيت!”. وهجمت عليه تخنقه وتكتم نفسه. مرعوب وبلا وعي هرب منها متخطيا جموع الناس التى تملأ بيتهم. تساءل عن سبب قدومهم. إنزوى في طريق خلفي يراقب البيت مستغربا.
ماذا حدث؟ ماذا حصل؟ يكاد يجنّ وهو لا يجد إجابة شافية.
مرّ بالقرب رجلين يتحدّثان
– رحمهم الله، هذا سي سعيد معروف يسوق يجري برشا، قتل معاه أمو و بنتو.
– الله يرحمهم تقلبت بيهم الكرهبة في الواد أش لزّو يجري.
– الله غالب العمر وقف و الموت حضر.
صمت يستوعب ما سمعه ثم صرخ طلال كالمجنون وجرى بلا هوادة تتلاطمه حيطان الزقاق و يضرب رأسه حتى أدمي. سقط مغشيا عليه. حين أفاق كان بصره زائغا و يهذي بكلام مبهم. كلما مرّ به أحد أو محسن يسأله باكيا “متى أزوره لقد تأخرت جدا؟ أين لباسي الأبيض”.
مرارا حاولت أمّه إعادته للبيت كي ترعاه لكنه يهرب صائحا مهتاجا “أريد الأبيض أريد الأبيض، ألبس أنا، أبي، جدّتي، الفراخ، العمدة، تأخرت أنا”. يجري بكل ما أوتي من جنون في كل طرقات القرية الضيقة يطارد شارون لكنه يأبى أن يأتيه. لعله يعطيه مهلة لجنون أكبر حتى يختفي.
*شارون هو الموت في الثقافة اليونانية القديمة
*فاز النص بالجائزة الاولى لنادي القصة ابو القاسم الشابي الوردية تونس وتم تكريم الكاتبة عواطف محجوب يوم 26 نوفمبر 2017.
عواطف محجوب

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.