طَبَعت حركة التنوير القرن الثامن عشر بطابعها الثوري، ولم يكن شاتوبريان (1768 ــ 1848) ناشطا فيها أو مؤيدا لها، فاقترح على نابليون العمل لإلغاء مفاعيلها. كان ذلك في الوقت الذي ظنّه مواتيا ويبدو فيه القائد الفرنسي راغبا في مصالحة الكنيسة. وبالرغم من الإنفتاح النسبي للكاتب على الحكم الجديد، فقد ظلّ شديد التعلق بالنظاميْن السياسي والإجتماعي لما قبل الثورة. فسخّر قلمه دفاعا عن الكاثوليكية وذودا عن تراثها الأدبي والفني والأخلاقي. فرأى في الكتاب المقدس ثراء لا تدركه “إلياذة” هوميروس ولا ترقى اليه “تحولات” أوفيد، وما على صفحات الكتاب من خرافات لا يعدو كونه قصصا فاتنة، جعلت الناس أكثر قبولا للوصايا العشر، وساعدت المؤمنين على تحمل آلامهم وهم يرزحون تحت وحشية غرائزهم. “فليس لقانون قوة السيطرة على غرائز الناس، إلا أن يكون قانونا إلهيا يَعِدُ بالحياة الثانية تعويضا عن محنة الفضائل على الأرض”. واعتبر ــ وهو على حق ــ أن الفرنسيين كانوا بمشاعرهم وأحاسيسهم أقرب اليه من فولتير الذي انتصر للفلسفة، بينما انتصر هو للدين على حساب الفلسفة الوثنية، فخلع على نفسه لقب”المعادي للفلاسفة” Anti-philosophe . اعتبره أكثرُ معجبيه مؤسسا للرومانسية الفرنسية، وهو على كل حال عَلَمٌ كبير فيها إن لم يكن أكبرَ أعلامها. تأثر به الرومانسيون اللاحقون أمثال مدام دي ستايل، ستندال، بلزاك وجورج ساند… لكن ستندال عاب عليه تعصبه وأنانيته وقد تأمل الشرق بعينيِّ جندي صليبي لم ينس دعوات البابا لشن الحروب الدينية، التي كانت ــ على ما يعتقد ــ مقابلا مسيحيا عادلا لدخول الخليفة عمر بن الخطاب منطقة النفوذ الأوروبية. “والتي كانت أيضا حروبا لم تسع لإنقاذ كنيسة القيامة وحسب بل سعت لتقرير من الذي سيخلف الأرض: مذهب تعبدي عدو للحضارة محبذ للجهل والعبودية والطغيان (ذاك هو الإسلام) أو مذهب آخر أيقظ في البشر المعاصرين عبقرية الزمن الغابر والحكيم…”
شاهد من على شرفة قصره الثوار الغوغائيين يلعبون برأس وزير المالية وهم في طريقهم لاقتحام الباستيل رمز السلطة البائدة، فقرر وهو الأرستقراطي الداعم للملكية أن يغادر فرنسا. هرب منها ثم عاد ثم هرب ثم عاد… لتحميه من غضب الثوار شقيقة نابليون. وبالرغم من عدائه للثورة اشتغل مستشارا للسفارة الفرنسية في روما، ثم استقال بعد الحملة التي شنها الإمبراطور على أنصار الملكية، وكان شقيقه أرمان واحدا من ضحاياها. رمى نابليون بطلب العفو الذي قدّمه شاتوبريان الى ألسنة النار، فهو يعرف الميول الملكية للعائلة، إضافة لكونه لم يكن واثقا بولاء هؤلاء الأدباء الثرثارين ولا بسلامة نواياهم في تقديم النصح السياسي، فقد سبق وحذّر منهم أخاه جوزيف بعد أن قدّم له مُلْك نابولي وصقلية ثم لاحقا مُلك اسبانيا حيث نصحه قائلا: “أنت تقضي وقتا طويلا مع رجال الأدب، وهم مثلُ كل المثقفين والمفكرين الذين يثرثرون وينشرون الإشاعات. إنني أعتبرهم كالنسوة المغناجات الحنّانات اللواتي قد يلاحقهن المرء، لكنه أبدا لا يختار لنفسه زوجة من بينهن. كما لا يختار من بين هؤلاء المفكرين وزراء أو معاونين”. وقد بادله شاتوبريان نفس مشاعر الكراهية فقال بعد أن استقال من مهامه السياسية: “عندما جرؤت عن التخلي عن نابليون وضعتُ نفسي في المكان المساوي له… فإذا كان سعيدا في إطلاق النار عليّ، فإنني أيضا لن أشعر بوخز شديد في الضمير إن رأيتُه مقتولا”.
كان والده رينيه أوغيست عسكريا في سلاح البحرية. جمع ثروة كبيرة من تجارة الزنوج الأفارقة. والأرجح أن لا نُصْبَ له في فرنسا وقد دارت منذ فترةٍ قصيرة حربُ التماثيل. تأثر شاتوبريان بأبيه فانخرط في إحدى الكتائب العسكرية ثم انسحب منها عندما قرّرت كتيبته الإنضمام للثورة. غادر أوروبا في هجرة طوعية بعيدا عن الثورة والثوار، ليطوف في شمال القارة الأميركية بحثا عن النبلاء المتوحشين. وهو مصطلح ورد بداية في مسرحية “الكلاب” للكاتب الأنكليزي John Dryden في معرض الإشارة الى سكان أميركا الأصليين الذين لم تلوثهم الحضارة. ثم استعمله روسو بالمعنى نفسه في نظرية العقد الإجتماعي. ولمّا قرأه فولتير قال ساخرا من هؤلاء المتعلقين بحضارة الماضي (السعيد!): “شعرتُ برغبة السير على أربع، لكنني فقدت هذه العادة منذ ستين عاما”. التقى شاتوبريان في رحلته بجورج واشنطن، وسجّل انطباعاته في يوميات نشرها تحت عنوان Voyage en Amerique تجلى فيها نثرٌ نادر في خصوبته وإشراقه. لقد أكرمه الهنود النبلاء المتوحشون، رافقهم، نام معهم في العراء، وكسر ذراعه وهو يهبط وراءهم المنحدر الصخري لشلالات نياغارا. فرسم من عذرية البراري الأميركية صورة رومانسية للحرية متناغمة لا بل شديدة التناغم مع الطبيعة إذ قال: “أيتها الحرية البدائية! لقد استعدتك أخيرا. إنني أنطلق مثلما ينطلق الطير. اتنقل كالذبابة التي لا عوائق أمامها، ولا تعرف إرباكا إلا في اختيارها للمكان الظليل…” شكك النقاد المتتبعون لوقائع رحلته في قسمها الجنوبي، فقد زعم أنه قطع مسافات في العمق الأميركي يستحيل أن يقطعها الرحالة سابقا وفي الزمن القصير لرحلته ثم أن وصفه للأمكنة لم يكن واقعيا إلا أن تكون المنطقة قد بدلت غطاءيْها الحيواني والنباتي.
شجعته أخته لوسيل على الكتابة بعدما لمست في رسائله نثرا لطيفا، لغة راقية وإنشاءً فريدا. فكتب شاتوبريان الذي أصبح لاحقا عضوا في الأكاديمية الفرنسية عن اثنين من البدائيين الهنود، وكان الراوي في كتابه شيخا أعمى أسرته في شبابه قبيلة معادية، وأنقذته من الموت المؤكد فتاة هندية Atala. هربا معا كما يهرب السجناء، أو كما يهرب العشاق المضطهدون وسط شديد المخاطر. وعندما طلب البطل يدها للزواج، أعلمته أتالا أنها قد تعهدت لأمها ان تموت عذراء. أيّد المبشّر المسيحي التزامها بالعهد، وأكبر فيها تمسكها بالعذرية، فالزواج برأيه حالةٌ من حالات السكر، وهو في حقيقته أسوأُ من الموت. وقد خَبِرَ المبشر في حياته كثيرا من هذه الأحلام الزائفة فقال:”لم يحدث أبدا أن التقيتُ برجل لم يخدع نفسه ويحلم بالسعادة، فليس هناك قلب إلا انطوى على جرح داخلي… الروح تشبه في صفائها الظاهري مستنقعات في فلوريدا بين الحشائش الطوال، يبدو سطحها هادئا وفي قيعانها تكمن التماسيح الكبيرة”. لم يبق أمام الهندية لتسوية صراعها الداخلي، إلا تناول السم كمخرج صامت ومبارك من هذه الحياة. تأثر برومانسية الرواية الرسامُ الفرنسي Girodet-trioson، فرسم “دفن أتالا” (صورة المقال) حيث تعاون في مواراة جسدها القَسُّ الناصح والحبيب الوثني. وهي لوحة احتلّت مكانها اللائق في اللوفر وبكى لظهورها عام 1808 على ما تقول الروايات نصفُ سكان باريس، وقد ترافق فيها حزنٌ هادئ وضوء صارخ ساطع يطل من خلالهما الصليب ليعلن أن الموت كان في “صالح أتالا التي وهبت نفسها للدين”. هذي كلمات في وصف اللوحة تتناسب لا ريب مع الزاوية التي أطل منها المؤلف والرسام والبكاؤون الفرنسيون، فالناظر أو الناقد يرى اللوحة دائما من خلال ثقافته. فقديما لعب الدين دورا جوهريا في صناعة الوعي الأخلاقي، لكن يشترك اليوم في صناعته الى جانب الدين عواملُ كثيرة منها السياسة والآداب والعلم والفن والحقوق والتحصيل الثقافي…لم يتوقف هذا الصراع الأخلاقي خلال الثورة الفرنسية ولا توقّف بعدها كما لم يتوقف الصراع السياسي المتلبس لبوسا أخلاقيا ودينيا، فقد اقترح شاتوبريان على القائد الفرنسي ــ كما أسلفتُ ــ إبطال عصر التنوير الذي خلخل النظاميْن الأخلاقي والإجتماعي للمسيحية، وأقام على أنقاضهما بتعبير الكاتب: نظاما أخلاقيا “متفسخا” ترك غرائز الفرنسيين بلا ضابط أو رادع. وليس أدلّ على هذا الصراع المعتمل في جنبات الثورة وفي صفوف المعارضة، من لقاءٍ جمع نابليون ب Madame de staёl في حفل مسائي، وكان فستان الروائية قد كشف عن ظهرها وصدرها وكتفيها فعزّرها الإمبراطور بقوله: “إنني أفترض أنك أنت التي تربين أطفالك بنفسك”.
في عام 1826 باع شاتوبريان جميع مؤلفاته بـ 550 ألف فرنك فرنسي. وبعد سنوات عشرٍ باع سيرته الذاتية “ذكريات من وراء القبر” التي استغرق إنجازها ثلاثين عاما بثلث هذا المبلغ، وهي أُمُّ كتبه على الإطلاق. تقول هيئة الإذاعة البريطانية انه باعها مقابل دخل سنوي على أن تُنشر السيرةُ بعد وفاته. “أُبرمَ العقدُ وأُمّنَ المخطوطُ ووُضعَ عليه ثلاثةُ أقفال بثلاثة مفاتيح بحوزة كل من المؤلف والمحامي والناشر”. صدرت المذكرات بعد وفاته، وبقي المخطوط بين يدي Pascal Defour وهو حفيد الكاتب العامل في مكتب محامي شاتوبريان، حاول باسكال بيعه في مزاد علني لكن المدعي العام الفرنسي أوقف البيع بحجة أن المحامي هو مكان لحفظ المخطوط وكون الأخير بحوزة حفيد الكاتب العامل سابقا في مكتبه لا يعطيه حق الملكية. أما محامي باسكال فقد اعتبر موكله مالكا لأن المخطوط مهمل. وما زال النزاع معلقا بانتظار صدور القرار النهائي للمحكمة.
اعتبر الكاتبُ والفيلسوف الفرنسي Jean D’ormesson (1925 ــ2017) قدوتَه شاتوبريان أنبلَ كتّاب فرنسا وأعظمَهم شأنا، وهو رأي وازن لعضو في الأكاديمية الفرنسية ورئيسٍ لتحرير الفيغارو. وكان قد نشر مؤلفا له عن الحياة العاطفية لهذا الرومانسي اللامع الذي ترتمي عليه العشيقات من كل حدب وصوب، فالشهرة تجذب النساء مثلما يجذبهن المال أو مثلما يجذب الضوءُ الفراشات. فقد تزوج عام 1792 من Celeste Buisson de la Vigne. سيدة متواضعة بصِداق متواضع، تحملته في مخاطر الصراعات السياسية كما تحملت انشغاله بالخليلات الكثيرات. ثم اتخذ من Delphine de Custine محظية له وما ركن إليها قليلا حتى تعرّف على Natalie de Noailles وهي العشيقة التي اقترحت عليه رحلة الحج الى الأماكن المقدسة. وبعد عودته الى فرنسا عام 1800 تردد الى صالون الكونتيسة Pauline de Beaumont والتي كانت على ما يقول عارفوها أديبة جميلة مثيرة وسهلة الإنقياد نحو الإثم. وسرعان ما أصبحت خليلته بعد ان قطع الثوار الغوغائيون رأس أبيها وكان وزيراً لخارجية الملك لويس السادس عشر، ويقال: إن شاتوبريان رافقها حتى اللحظة الأخيرة، دعته للإلتحاق بزوجته بعد أن شعرت بسكرة الموت، بكاها بدموع حرَّى، لا بل انتحب من أجلها كما لم ينتحب الرجال. توفي أكبر المعجبين بشاتوبريان عام 2017 ونعاه الرئيس الفرنسي ماكرون على حسابه قائلا: كان أفضل من عبّر عن الروح الفرنسية في كونها مزيجا من الذكاء والأناقة… ثم ردد في تشييعه عبارة نيتشيه: “من شدة عمقهم كان الإغريق يبدون سطحيين”. وذلك ردا على أولئك الحساد الفرنسيين الذين اتهموا الكاتب بالخفة. وقد يحدث ان تندلع أحيانا بعد الموت حرب القبور، فقد بصق الكهنة على قبر سبينوزا، قطع مقاتلو النصرة رأس أبي العلاء واخترقت رصاصتان عباءته السورية التي دثره بها النحات الحلبي محمد قباوة، بال سارتر على قبر شاتوبريان، ونفر من تصرفه الى جانب فرنسوا مورياك، جان دورميسون وسيمون دى بوفوار. ولم يمض زمن على موت سارتر حتى زعم بعضهم أن الشاعر الكولومبي Arnolfo Valencia سرق شاهد قبره واعترف لبناته قبل يومين من موته عن المكان الذي يُخفي فيه أثمن متعلقاته.
بعد اقتراح ناتالي بزيارة الأماكن المقدسة، انصرف الرومانسي لقراءة ألف ليلة وليلة، الكتاب الذي لا تُملّ قراءته فهو دليل المنطقة وأشهرُ معالمها الثقافية، طالعه المستشرق البريطاني Alexander William Kinglake (1809 ــ 1891) وشكك أن يكون قد ابتكره شرقي هو من حيث الإبداع شيء ميت وجاف. استقرّ رأي شاتوبريان على السفر بعد استحارة قصيرة، وادّعى أن رحلته الى الشرق” مسارُ رجل انطلق أصلا الى حيث يرى السماء والأرض والماء… ثم عاد إلى بلاده وفي رأسه بعضُ الصور الجديدة وفي فؤاده بعضُ المشاعر الحقيقية.”فالسائح الراغب في تجديد مخزونه من الصور والإنطباعات ينتمي لأصل بريتوني شديد الإعتزاز بخصوصية ثقافته المتعالية حتى على ثقافة الفرنسيين، فلا يشعر بانجذاب لشعوب الشرق، ولا يقيم وزنا لتنوعها الثقافي والديني، ولكل ما هو زاخر فيها وملون. (Sophie basch استاذة الأدب الفرنسي في السوربون) لذا يشعر القارئ ببرودة الأسباب المعدودة لدوافع السفر وتبخيس دواعيه. ومن الطريف دلالةً لهذا الإعتزاز الثقافي او العرقي أن دوقية بريتان — وكانت قبلُ مملكة ــ قد اشترطت لأنضمامها الى فرنسا في القرن الخامس عشر أن يبقى عَلَمُها مرفوعا، وأن يتزوج شارل الثامن دوقتها Anne التي أصبحت فيما بعد ملكة فرنسا. كان الشرق الألماني شرقا بحثيا، أما الفرنسي فكان حقلا يبحث حجاجُه عن ريِّ انحرافاتهم، عما يغني خيالهم فيه ويبرر مساربهم الوجودية. يذكر أدوار سعيد في مقدمة الإستشراق أن صحفيا فرنسيا زار العاصمة اللبنانية بعد الحرب الأهلية، فراعه دمار الوسط الحيوي للمدينة، وكان أشد قساوة مما خلفه انفجار المرفأ في الرابع من آب 2020، فقال متحسرا: ” لقد كانت المدينة ذات يوم كأنها تنتمي الى شرق شاتوبريان ونرفال.” وأردف سعيد يقول: “فالشرق كان منذ القدم اختراعا غربيا، مكانا للرمنسة، مسرحا للكائنات الغريبة المدهشة، ومكانا للذكريات والتجارب الإستثنائية.” يؤيد إنطباعه هذا ما ذكره نرفال مرة لِـ يوهان غوتيه: من أن زهرة اللوتس بالنسبة لشخص لم ير الشرق تبقى زهرة اللوتس، أما بالنسبة لي فإنها لا تعدو أن تكون نوعا من أنواع البصل. وكان نرفال قد فَلى فَلْيا دقيقا أغرب مناطق الشرق وأكثرها ملاحة وجمالا.
في رحلتْيه الغربية والشرقية كان شاتوبريان مدفوعا ليس ليجدد مخزون خياله من الصور والمشاعر، وهو ادعاء بارد وفارغ، وإنما ليثبت أهمية الروح الدينية كما أثبتها في “عبقرية المسيحية” Le génie du christianisme وفي النهاية المأساوية لرواية أتالا، وكما يُحْييها الدين عادة باعتباره”لغة كونية يفهمها جميع البشر”. وصل الحاج الفرنسي (الورع!) الى ميناء حيفا آتيا من اليونان والقسطنطينية، ثم عبر البحر الى مصر فتونس ومنها الى إسبانيا عائدا إلى فرنسا. والمدة القصيرة للرحلة (13 يوما) تدفع المرء للشك بكثرة الوقائع التي ذكرها وللشك أيضا بصدق المشاعر التي دوّنها قياسا لغزارة ما كتب ولنُدرة ما شاهد، فبناتُ الخيال لا تكوّن وقائع حقيقية على الأرض وتبقى دائما من صنع الأخيلة. فمن رؤية الكرمل الذي غمره بالخشية وهو بعدُ على ظهر السفينة الى قبر السيد المسيح تَحْسَبُ الحاجَ نبيا رائيا، وليس أدلّ على نُبوّته ورؤاه من انطباع آسرٍ له كتبه ببلاغة مختارة ولمعة ينقطع معها النفَسُ الطويلُ فقد قال: حين يسافر المرء في اليهودية، يقبض على القلب وأنت تعبر من مكان متوحد الى مكان آخر متوحد ملكٌ هائل، فينتشر الفضاء أمام عينيك بلا حدود. وعندما ينحسر انقباض القلب، يشعر المرء برعبٍ سري. رعبٌ بدلَ أن يُغرق الروحَ في السوداوية… يسمو بعبقرية المرء الأصلية، فتنجلي أشياءٌ خارقة في كل جزء صنعته المعجزات: الشمسُ اللاهبةُ، النسرُ المترفع بإباء، شجرةُ التين العاقرُ، الشعرُ كلُّه. مشاهدُ الكتاب المقدس حاضرةٌ كلها هناك، كلُّ إسم مقفلٌ على سر، وكل مغارة تعلن المستقبل، وكل قمة تحتفظ بنبرات نبي. لقد تحدث الرب نفسُه من على هذه الشواطئ، وتشهد على ذلك مجاري السيول الجافة والصخورُ المنغلقة والقبورُ المفتوحة لهذه المعجزة. وتبدو الصحراء ما تزال صماءَ مصعوقةً بالرعب. وبوسع المرء أن يقول: إنها لم تستطع بعدُ أن تكسر الصمت منذ أن سمعتْ صوتَ السرمدي. (الإستشراق)
لقد رأى شاتوبريان في الشرق عالَما متفسخا صامتا منذ آلاف السنين ولا تُنطقه أو تُحييه إلا الأناجيل وتوراة العهد القديم، فاستحضر من وحي الكتب الدينية تلك، صورَ التاريخ القديم. ففي طريقه الى القدس شاهد حميرا بجمال الحمير الوحشية الموصوفة في الكتاب المقدس، كما شاهد نساءً ذكّرنه بنساء مدين، ولو لم يُبقِ العربُ في جبال يهودا أفواهَهم مغلقةً لما دلّ شيء على فظاظة وحشيتهم التي لا تشابه أبدا ــ من حيثُ البدائية ــ الوحشيةَ الرقيقةَ للنبلاء الهنود. فالعرب أسلاف عِرقٍ بدائي مطبوعٍ على الجفاء والغلظة من أيام هاجر وإسماعيل.
عندما وصل شاتوبريان الى مصر، عاد كل شيء الى معدنه. تضاءل إحساسه بالنبوة، لم يعد رائيا، أصبح وطنيا متطرفا، كسر صمت الصحراء السرمدي وعادت اليه من جَدَّتِه البريتانية البعيدة نزعة إستعلائية، أصولية سوداء، وشوفينية بغيضة كان يغطيها في القدس إحساس عارم بالإيمان، وصمت مصعوق بالرعب منذ أن سمع الشرقُ صوت الإله ونبرات الأنبياء. فقد وجد في مصر “سهولا عظيمة جديرة بوطنه البهي، وبقايا أنصاب تذكارية جاءت بها الى النيل عبقرية فرنسا”. ثم أنه لمّا شاهد التفاوت التاريخي بين حضارة البلدين تساءل كيف حدث أن سكن هذا الرعاع المنحط الغبي من المسلمين ظهرَ الأرض التي يسكنها المسيحيون حكماء الزمن الغابر والحكيم. وقد أدرج في “مذكرات ما بعد القبر” رسالة أسقف مدينة Ally الكاردينال دى بوسي الذي كتب له عن مصر يقول: “كم أنا ممتن لك يا سيدي لأنك وضعت هذا الشعب الغبي والشرس في نفاية التاريخ، فلمدة اثني عشر قرنا يسود الخراب أكثر المناطق جمالا على الأرض. إننا نبتسم معكم فرحا آملين ذات يوم أن يعود هذا الشعب إلى صحرائه الأولى”. وقبل أن يغادر مصر الى قرطاج، ادعى أنه صاحب حدْس تاريخي ومعرفة بالغيب فقال متعاليا بلغة الآلهة: “وَضَعْتُ موانىء ديدون في مكانها”. ولم ينس وهو في مصر أن يرسل مبعوثا الى الأهرام لينقش اسمه على أحجارها الخالدة، فهو على عجلة من أمره “وعلى المرء أن يحقق في الحجّ جميع الواجبات الصغيرة للرحالة الورع”. فقد رأى أن نقش اسمِه على الأهرام مثلَ كتاباته يدل على أناه وذاته الأبدية. وليس أجمل أو أصدق في تذييل هذا المقال من تتمةٍ أو إضافةٍ ذكرها أدوار سعيد في رجل له تركيبة شاتوبريان الرومانسي المرفّه والحسّاس أمام شرق سقط في الوحشية، وكيف شعرــ وهو يرقُب العرب يحاولون التحدث بالفرنسية ــ بنشوة شعر بها روبنسون كروزو حين سمع ببغاءه ينطق للمرة الأولى. وأخيرا ثمة من يعتقد أن شاتوبريان كتم شكوكه الدينية ستين عاما، فلم يعد يؤدي طقوس الإعتراف ولا صلاة الفصح وقال: كان ينبغي ألّا أولد. وربما لم يخطىء Emile Deschanel عندما قارن بين مسيحيتيْ لامارتين وشاتوبريان فاعتبر الأخير متسترا بالإيمان وقد بقي في سريرته وثنيا حتى العظم، وعندما بلغ من الكبر عتياً أدرك أن ما يلزمه فقط في هذه الحياة ليس أكثر من صحراءَ ومكتبةٍ وعشيقةٍ واحدة.
0 تعليق