خُطُواتٌ فوقَ جسدِ الصّحراءِ
مَسرحةُ الْقصيدةِ الْعربيّةِ
قراءة وتحليل: أ.د. محمد مصطفى منصور
جامعة الفيوم – كلية دار العلوم – قسم الدراسات الأدبية-
جُمهورِيّة مِصر العربيّة.
يرسم الكاتب بنصه لوحة فنية تتزاحم فيها الألوان المستوحاة من عبق الزمن والممتزجة _بمقدرة_ بحقائق التاريخ، والنص يعكس خلجات الكاتب ومشاعره الآنية، ويتخذ من أحداث التاريخ وشخصياته منفذًا لعرضها أمام قارئه، فيحاول الدّخولِ في تاريخِ الْحضارةِ الْعربيّةِ الْإسلاميّةِ، ليعرضها برؤية معاصرة، يصل فيها حاضره بجُذوره، وقد صاغها الكاتب في سياق رحلة عبر الزمن، يقطع _من خلالها_ أزمنة التاريخ الغابرة؛ ليهيئ الكاتب لنفسه مهربًا من زمنه إلى الزمن الماضي ينفس به عن همومه ولواعجه، لعله يجد بذلك سلوى عما يعانيه.
وبين يدي الرحلة وضع الكاتب شروطًا لمن يريد صحبته فيها؛ لتأهيل قُرَّائِه نفسيًّا لقراءة نصه والتفاعل معه، قبل سبر أغواره والتعمق في دهاليزه؛ فاشترط على المصاحبين له في هذه الرحلة الزمنية أن يكون محبًّا لأرض الجزيرة العربية، في قلبه حرارة الشوق إلى تاريخها وأمجادها، كما اشترط عليه _كذلك_ أنْ يتركَ كلَّ مَتَاعِ الدُّنيا على عتبة باب مدينة النص حتى تتمكن روحه من الانطلاق ورؤية ما لا تراه الأجساد المثقلة بأعباء الحياة ومشاغلها.
ولم يَفُتِ الكاتبَ أن يضع لرحلته برنامجًا محدَّدًا تكون نقطةُ الانطلاقِ فيه زمنَ الْجاهليّةِ، وينتهي مطاف الرحلة بحِجَّةُ الْوَداعِ.
لقد تعددت روافد الكاتب الثقافية لتشكل ثقافته المعرفية وشخصيته الأدبية؛ فلم يقتصر _في تحصيل ثقافته_ على رافد واحد من روافد الثقافة، وإنما تعددت روافده المعرفية فظهرت في النص مزيجًا من اللغة، والأدب، والتاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، والثقافة الدينية، والتصوف، وانعكس كل ذلك في إنتاجه الأدبي.
ويتضح ذلك في استعانة النص _في بناء تكوين نسيجه الحكائي_ بمفردات الجغرافيا والتاريخ والثقافة الأدبية، ويعكس النص _بذلك_ خبرة كاتبه بالمكان الذي أراد أن يعلم بخطواته فوق جسده (الجزيرة العربية)، وظهر ذلك في زخم المواضع الجغرافية والأماكن التاريخية التي اشتمل عليها النص؛ فذكر منطقةَ اليمن، ومعالِمَ صنعاء، وخليجَ عدن، وبابَ المندب، والبحرَ الأحمرَ، والمحيطَ الهادي، والخليجَ العربيَّ، وخليجَ العقبة، والفراتَ، والعراقَ، والحيرةَ، والبحرينَ، ونجدَ، ومدينَ، والصّحراءَ الْغربيّةَ، والْمغربَ الْعربيَّ، وجُزُرَ الْكناريا، وواديَ الذّهبِ، والدّاخلةَ، وإسبانيا.
ولم تقف خبرة الكاتب وثقافته عند حدود التضاريس الجغرافية، وإنما استدعى _إلى جانب ذلك_ ما يتعلق بالجغرافيا من ذكريات الأماكن والشخصيات التاريخية، والسير الشعبية، أو الملاحم والأساطير التي تداولتها الثقافة العربية في زمن الجاهلية؛ فذكر النصُّ جملةً من شعراء العرب وأماكنهم في الجزيرة كامرئ القيس، وطرفة بن العبد، وتأبط شرًّا، والغول، والشنفرى، وعُديّ بن ربيعةِ التّغلبيُّ، كما أشار النص لداحس والغبراء، والبسوس، كما استعان الكاتب في بناء القصة بتوظيف بعض الحكايات التراثية التي تناقلها الناس على مر العصور (بدر البدور وقمر الزمان).
لقد نفى الكاتبُ أن يكون النصُّ معبرًا عن مؤلفه؛ فطلب من قارئه _في بدايته_ عدم البحث عنه فيه، وإنما كتبه الكاتب معبِّرًا عن كل عربي قادم، يهمه استكشاف حضارة العرب والوقوف على آثارها (لا تَبْحثْ عني بَيْنَ سُطورِ الْكتابِ! هُوَ أنتَ هذا الْعربيُّ الْقادمُ إلى الْجزيرةِ الْعربيّةِ).
أقول: إن كان الكاتب قد صرح بذلك _بين يدي عمله_ إلا أنه لم يتمكن من إخفاء ملامح شخصيته إخفاء تامًّا؛ فهو الإنسان المغرَّب عن وطنه الذي يعاني _مثل كثيرين_ تداعيات الاغتراب ويجتر مرارتها (تركَني معلّقًا، لا أرضَ تجمَعُني، لا سماءَ تأويني، لا وطنَ يأخذُني ويَمضي في سَفَري، سواكَ سواكَ يا قمري)
ومما زاد من مرارة الغربة عن الوطن وألمها حيلولةُ خلق كثير _من أصحاب المنافع والأغراض_ دون الظفر بالوطن والرجوع إليه، وهم قومٌ خلع النصُّ عليهم صفات الشر والخراب، فمنهم الغرباء وغير الغرباء، ومنهم اللصوص وقطاع الطرق، ومنهم المعذِّبون للخلق، الذين يحققون متعتهم في إعمال أدوات العذاب فيهم (أَضاعَني قَدَري وبَيْني وبَيْنَ مملكتي، يقِفُ الْغَريبُ وقاطِعُ الطَّريقِ، والسَّيفُ والجلّادُ وَالْمِقصَلَةُ)
ولم يتمكن الكاتب من إخفاء نفسه كاتبًا يتخذ صنعة الكتابة ملجأ للتسري وملاذًا للتنفيس عن مرارة الواقع واستدعاء أحداث التاريخ والأزمنة الغابرة (خُذْني، أُجاوِرُ خُطُواتِكَ في ليلِ الْغُربةِ وَالتَّرْحَالِ، خُذْني معَكَ، أدْخُلُ خَيمةَ التّاريخِ، عَباءَتي الشّمسُ، والصّحراءُ يدي، وأصابعي أَودِيةٌ دائمةُ الْجَرَيانِ بالْحِبرِ والْكِتابةِ)
وقد اختار الكاتب _بعناية_ من أرض الجزيرة العربية منطقة «الربع الخالي» لتكون معادلًا موضوعيًّا لحاله وتعبيرًا عن وطنه؛ لذلك لم يستطع أحد أن يعلن ملكيته لهذه البقعة من أرض جزيرة العرب، ولكن الكاتب يعلن انتماءه لهذه المنطقة (الربع الخالي) انتماء الأصل، فإن طينته _التي تشكَّل منها جسدُه_ من أرضها، ليضفي بذلك على الفلسطيني الظلال التي تلقيها أرض «الربع الخالي» في أذهان الناس؛ فهي أرض موحشة قاحلة ينفر الناس من اجتيازها فضلًا عن الإقامة فيها وعمرانها (لا يَسهرُ في ليل الرُّبعِ الْخالي، إلا مَنْ هَجرَ في موسمِ اَلْمَطَرِ إلى خِصْبِ الْمكانِ، أرضٌ لا يمْلكُها أحدٌ في الْجزيرةِ الْعربيّةِ)
كذلك كل من انتسب إلي أرض «الربع الخالي» أو تشكل جسده من طينتها، فإنه محكوم عليه بالضياع والغربة والعذاب (وتركُضُ أمامي أوجاعي وعذاباتُ الرّحيلِ، يأخذُ الرُّبعُ الْخالي منْ صِلصالِ الطّينِ، طينةً أخرى يتشكّلُ منْها جسدي)، ومع ذلك فإن الكاتب لا يجد له مكانًا غير هذا المكان القفر الموحش (وأنا في الرُّبعِ الْخالي مكاني).
وينعكس الإحساس بالمكان على الحالة النفسية للشاعر، لأن وحشة المكان تورث في النفس انقباضًا ومرارة وتصيب صاحبها باليأس، فلا يشعر معها بقيمة الأشياء، ويصير كل ما يعالجه أو يتفاعل معه في الحياة جزءًا من المكان الذي يعيش فيه (أعرفُ أنَّ إقدَامَكَ فوقَ الْأرضِ هَباءٌ، وما ملكَتْ يداكَ، وأنَّ كلَّ الْأرضِ وما عليها هيَ الرُّبعُ الْخالي)
ويتخذ الكاتب من رحلة «الإسراء والمعراج» قبسًا يسلط ضوءه على مكانة النبي ﷺ عند ربه، وجهوده في أداء تكليفات وظيفته (قَمَرٌ، لا يَحلُمُ فوقَ الْحبشةِ هيَ ليلةُ الإسراءِ، سيّدُ الزّمانِ يَفتحُ سماءَ الْعرشِ، يدخُلُ سيّدُ الْأرضِ في غَياهبِ الْغيبِ) ويوظف النصُّ بعض ما ورد عن النبي ﷺ من أقوال وأحاديث في رسم الصورة (لقدْ صَلّيْتُ معكمُ الْعشاءَ الأخِيرَ، ثمَّ جئْتُ بيتَ المَقدِسَ وصَلَّيْتُ فيهِ)، ويوالي النص ذكر مفردات «المعراج» ليعين القارئ على تذكر ما اقترن به من أحداث، وليعلن الكاتب بتلك المفردات عن ثقافته الإسلامية التي لا تقل عن ثقافته العربية في الشعر والأدب والفلسفة (ثمّ يسجُدُ فوقَ عَرشِ اللهِ، ويَدخُلُ السّماءَ السّابعةَ، ثمَّ حمَلَتْهُ دابّةٌ عجيبةٌ هيَ الْبراقُ، لها وجهُ اَلْمَرْأَةِ وأجنحةُ النّسرِ، وذَنَبُ الطّاووسِ إلى السّماءِ السّابعةِ).
ويعرج النص على «قبة الصخرة» التي اتخذها النبي ﷺ مرتكزًا لانطلاقه من الأرض إلى السماء في رحلة «المعراج» (قمر يَصعَدُ في صُعودِ الْمِعراجِ، ويَحُطُّ فوقَ محطّةٍ، هيَ رِحلةٌ فوقَ صخرةٍ، تنطِقُ الصّخرةُ كما الصّحراءُ، باسمِ اللهِ في بيتِ الْمقدسِ، تجمَعُ الْقدسُ شراشِفَ الْحريرِ، وتنامُ عندَ الْفجرِ، مُسَلِّمةَ الرّوحِ والْجسدِ فوقَ زُنودِ مكّةَ)
والكاتب _بذكره لقبة الصخرة_ يعقد مقاربة بينها وبين «الكعبة المشرفة»، ليعكس بها شجونه ومواجيده، بوصفهما قبلتين للمسلمين، فيستقر مفهوم القبلة في وجدانه ومشاعره؛ ويرى القبلة الأولى (مكة) بعين المشتاق لوطنه، فهي _بالنسبة له_ رمز للخلاص ورمز للوطن الغائب، وفي الوقت نفسه تداعب القبلة الثانية (قبة الصخرة) خياله وأمنياته، ويتمنى أن تكون مقصودة من المسلمين في كل بقاع الأرض كما تقصد القبلة الأولى (الكعبة)، والكاتب يخاطب «مكة» في الظاهر، ولا تغيب «قبة الصخرة» عن مكنون نفسه وقرار مشاعره (صخرةٌ، هنا قُبّةٌ وهناكَ كَعبةٌ مُشرِّفةٌ)
وإن كانت «فلسطين» تداعب خيال الكاتب من خلال «مكة» _التي هي رمز للخلاص_ فإن الوصول إلى خلاصها من الأسر صعب المنال، طال انتظاره عبر الأزمنة المتلاحقة، ولكن الطريق إليه صعب عسير صعوبة الوصول إلى مكة وأنت في «الربع الخالي» (والطّريقُ إلى رِحابِ مَكّةَ طويلةٌ، ولَيْلٌ مِنَ الضّبابِ كثيفٌ، زمنٌ يَرْفَعُ على رؤوسِ الرِّماحِ، قلعةَ اَلِانْتِظَارِ، وصَمْتَ اَلْمَكَانِ وعَطَشَ الْقلوبِ)
ويعكس النص معاناة الإنسان من الحيرة ولحظات الشك والضياع في الأمم والحضارات قبل البعثة المحمدية، فكل الحضارات والممالك زالت، وكان زوالها دليلًا على بقاء صانعها ومنشئها (أَنظُرُ… حَجَرًا مَتروكًا لِمَعبدٍ وَثَنِيٍّ. بِدايةُ الزَّوالِ، كلُّ مَتاعٍ على وجهِ الْأرضِ زائلٌ، وعرشُكَ باقٍ عرشُ اللهِ)
ويجد النص في شخصية النبي ﷺ ملاذا للخلاص من أوضاع البشرية السيئة على المستويين الفكري والواقعي؛ فلم تقم حضارة _على مر التاريخ_ إلا أصابها التلف وضاعت معالمها عبر الزمن لأنها لم تكن تحمل في طياتها مقومات البقاء الأبدي كما حملت رسالة الإسلام.
ويستعرض النص لحظات القَدَر المحتوم بإعلان السماء عن اختيار «محمد ﷺ» رسولًا إلى الناس من قبل ربه، وسيدًا للأرض (هوَ أنتَ سيّدُ الْأرضِ، خرجْتَ رسولا، وأُنزِلَ عليكَ الْكتابُ)، وأعلنت السماء أن سيادة الأرض من نصيب صاحب الغار (غار «حراء») حيث يتخذ النبي ﷺ منه متعبدًا وملاذًا للفكر والتأمل، وأن موعد ذلك هو ليلة القدر (يَجلسُ سيِّدُ الزَّمانِ، على حَجَرٍ مَتروكٍ لمَعبدٍ وَثَنِيٍّ، يَكُتُبُ فوقَ الرّملِ، يُعْلِنُ: سيّدُ الْأرضِ، سيأتي يَهتِفُ باسمِ الْواحدِ الْأحَدِ، سيأتي الصّوتُ مِنَ الْغارِ، مِنْ أعالي «جَبلِ حرّاءَ»، وتكونُ ليلةُ الْقدرِ)
ويرصد النص تنزلات أنوار الوحي وإشراقات الهداية للبشرية، للتعرف على سيده الحقيقي، الإله الواحد الحق وعبادته، بعد أن تلطخ الإنسان في وحل الشرك وعبادة الأوثان (صَلصَلةَ أجراسٍ تَتَدلّى، موسيقى مِنْ ذَهَبٍ، وحْيَ اللهِ، في ليلةِ السّابعِ والْعشرينَ مِنْ رمضانَ، بِرِسالةِ التّنويرِ وعصرِ اَلْإِنْسَانِ)
ويرسم النص لشخصية النبي ﷺ صورة تعكس الحالة النفسية لكاتبه، فأظهره في صورة طبيب متمرس خبير بأدواء النفوس، يسكب فيها _بحكمة_ ما يناسبها من دواء يستخلص به أدواءها المزمنة العنيدة، ويخلصها من الخضوع لغير سيدها الواحد (سيأتي مِنْ عِبادِي، يَسكُبُ في النّفوسِ، ماءَ الْحِكمةِ كالدّمِ في الشّرايينِ يَسري، وتَجري في عَتمةِ النّفسِ وظُلْماتِ الْوجودِ، نورًا يُشرِقُ فوقَ الْكونِ في صلاةٍ أبديّةٍ، سيأتي حاملًا جَفافَ الرّملِ، كلامًا يشبهُ السّحرَ وما هوَ بالسّحرِ، داخلًا عوالِمَ الْعالَمِ وأقاليمَ الْبلدانِ، مُهاجِرًا في شريعةِ التّوحيدِ، وَتَحطيمِ الْأصنامِ… الْأوثانِ)
يتخذ النص من أحداث السيرة النبوية العطرة خيوطًا لنسج ملامح لرسم الصورة الفنية التي أرادها الكاتب، فبعد ظهور الدعوة المحمدية لم يعد نطاق مكة مجالًا لحلم القمر، فالقمر لا يشع بضوئه الحالم إلا على أرض يصدح في أرجائها ذكر خالقها وخالق الكون (يَشربُ الْقَمَرُ الْحالِمُ هذا اَلْمَسَاءَ، ماءَ الصّوتِ في آياتِ اللهِ، مرحى بلالُ،… لكَ اَلْمَجْدُ، لكَ ما بَسَطَ اللهُ منَ الْوحيِ، ما أَنزَلَ منَ الْحكمةِ، ما أبدعَ في التّنزيلِ)، وبعد أن ضيقت «قريش» الخناق على المسلمين واضطرتهم إلى الخروج من أوطانهم إلى أوطان أخرى غريبة عنهم (أرض الحبشة) فرارًا بدينهم وعقيدتهم (قَمَرٌ، لا يَحلُمُ فوقَ مَكّةَ، يَهجُرُ الْمكانَ في سكونِ صَمتِ الْحركةِ، ويَدخُلُ بلادَ الْحبشةِ، تُغلِقُ «قريشُ»، طوقَ الاختناقِ حولَ أعناقِ اَلْمُسْلِمِينَ، ويَخرُجُ سيِّدُ الْأرضِ، كما تَخرُجُ الْبِذرةُ مِنَ التّربةِ، وينبعثُ الصّوتُ مِنْ مِئذنةٍ، كما يَنبثِقُ الضّوْءُ مِنَ الْعتمةِ، هذا الزِّنجيُّ مِنَ الْأحباشِ، يَرفعُ الْآنَ الْآذانَ فَوقَ مِئذنةٍ حَبشيّةٍ، مرحى بلالُ، مَرحى بلالُ)
وتتوالى أحداثُ السيرة العطرة خيوطًا متناثرة في نسيج النص الفني، ويشير النصُّ لحادث الهجرة إلى «المدينة المنورة»، كما يشير لغزوة «الأحزاب» التي أشار فيها «سلمانُ الْفارسيُّ» (بِحَفْرِ خَنْدَقٍ حولَ الْمدينةِ)، ورسم النص من خلال تعبيره عن تلك الغزوة صورة جميلة للنبي ﷺ بخروجه من عند الله في الوقت الذي خرجت فيه الوثنية لحرب الله (خرَجَتِ الْوثنيّةُ لحربِ اللهِ، وخرجْتَ أنتَ مِنْ عندِ اللهِ، رسولًا منصورًا، لكَ يومُ الْجمعةِ للصّلاةِ، وشهرُ الصّومِ في رمضانَ، والْحجُّ إلى الْكعبةِ ولثمُ الْحجرِ الْأسودِ).
ويستمر توالي الأحداث حتى يحين موعد لقاء مكة في يوم الفتح، لحظة لقاء الوطن بعد غيبة وهجرة، وهي لحظة دخول أرض الوطن بانتصار بعد انكسار، ولحظة توافق المتباعدات وتواؤم المتفارقات، (هيَ لحظةُ خلقٍ في التّكوينِ، أنْ تعودَ إلى مَكّةَ)، وجعل النصُّ من العودة إلى مكة انعكاسًا لما يعترك في العقل الباطن لكاتبه من لواعج حنين العودة إلى موطن القبة في فلسطين (هيَ لحظةُ الْوجْدِ في التّوحيدِ، ما بَيْنَ الْخَلْقِ والْخالقِ، ما بَيْنَ كتابِ اللهِ، وكتابِ الْماءِ والْحَرَمِ الشّريفِ والْكعبةِ، هيَ لُغَةٌ لا تعرفُ إلا الرّمزَ، ما بَيْنَ النّاسخِ والْمنسوخِ والظّاهرِ والْباطنِ). وفي نهاية المطاف تصل الأحداث إلى ذروتها بحجة الوداع، التي أراد الله تعالى بها إتمام الدين وإكمال النعمة وتثبيت أركان التوحيد الخالص (وأنْ تكونَ «حجّةُ الْوداعِ» لا إلهَ إلا اللهُ).
0 تعليق