في الحقيقة كل الأعوام عامرة بالخيبات، وكل سنة لها خيباتها وصفعاتها على وجوهنا، والحق يقال إن الخيبات تصبح مميزة أكثر وأكثر كل عام. أشخاص نفقدهم غصبا عنا، الظروف تفرق بيننا وبينهم، ولادة علاقات جديدة مشوهة، خيبات كبرى وأخرى صغيرة، خيبات جسيمة وتافهة، بل ربما أكثر ما يشعر المرء بالتفاهة هي الخيبة التافهة. لأنها تكون أشبه بنكتة غير مضحكة، ترتدّ على راويها بالخزي والفتور.
هذا العام كان عاما فاترا ومخزيا، لعل أجمل ما فيه أنه مر سريعا لم يكن ثقيل الحركة. هل هذه محمدة للوقت أم مذمة؟ على كل حال كان عاما سيئا جدا، ليس لأننا تقهقرنا سياسيا أكثر وهزمنا شر هزيمة، بل لأننا أصبحنا أكثر خفة من تبن الحصادين في حزيران وتموز، وصرنا أشد بلاهة من ذي قبل، وكلما تقدم فينا الزمن نتخلص من حكمتنا أولا بأول، فمع كل سنة تهلّ نفقد شيئا من حكمتنا وكرامتنا وعقولنا، الأيام تقلّم حكمتنا لتجردنا من كل قيمة لنغدو أكثر شرا وبلاهة وعفونة.
كل هذا ليس مهما، فقد تعودنا عليه وكثيرا، ولكنّ الخيبتين الموجعتين في هذا العام الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، خيبتان شخصيتان ما زالتا توجعانني بشدة، وعلى ما يبدو أنني لن أتخلص من آثارهما بسهولة، الأولى ما حصل في انتخابات اتحاد الكتاب، والثانية ما حدث أيضا في المؤتمر الرابع لحزب فدا.
كلا الأمرين كان شرا فادحا، فمؤتمر اتحاد الكتاب كان شكليا تافها لا شيء فيه يستحق الذكر. كان أتفه من لعبة صبيان في حارة شعبية، لم أدر كيف انتهى وكيف تشكلت النتائج على النحو الذي تشكلت عليه وفيه. إن ما يؤلم في أمر اتحاد الكتاب أن المثقفين والكتاب يساقون تحت مسمى الفصائلية لإخراج هيأة تابعة للسياسي وهزيلة جدا، ليس لها برنامج ثقافي ولا مشروع نهضوي وليس لها أسئلة فلسفية كبرى تريد أن تشغل فيها الرأي العام الثقافي خدمة لمشروع التنوير العام، ولا تطمح لقيادة المشهد الاجتماعي والسياسي وليس الثقافي وحسب، وليس لديها رؤى، بل ولدت مخلوقا هزيلا مشوها غير عاقل، معاقا لا يستطيع المسير، أعمى، يفتقر حتى للعصا.
إن هذا الذي حدث جعلني وعلى مستوى شخصي لا أومن بأية مؤسسة تابعة للدولة ويتحكم فيها السياسي سواء كانت اتحاد كتاب أو وزارة ثقافة أو مكتبة وطنية أو جامعة، فكلها تسيرها عقلية واحدة تافهة ودكتاتورية ومصلحية، ولا ترى شيئا نهائيا. وجعلني أنظر بكلتا عينيّ لأرى ما يجرى لأكتشف أنه أسوأ مما كان يتوقعه أحد. كانت خيبة أمل كبيرة كسرت توهج النور في داخلي وصرت لا أرى من المشروع الثقافي غير الهباء المنثور، ولولا ما يصرّ الكتّاب المخلصون على فعله بجهود شخصية لم تقم للثقافة الفلسطينية قائمة. وقد وصلت التفاهة في تلك المؤسسات أنها تبقى في مكانها دون حراك حتى إذا التقطت عيونها العاشية بصيص أمل لفوزٍ حققه أحد كتابنا المناضلين ضد الغثائية والبوار سارعت تلك المؤسسات لاحتضانه وتهنئته، وأصدرت البيانات التي تؤكد شيئا لا تدري هي نفسها ما هو. كما أنها صارت بياناتها بيانات عزاء، كأنها فتحت بيوت عزاء لمن توفي من أقارب الكتاب والمثقفين، ولا تفعل غير ذلك. ليست مهمة اتحاد الكتاب التعزية أو التهنئة، ولكن إذا غابت المهام الكبيرة انشغل القوم بما هم مشغولين فيه.
أما الخيبة الثانية فهي من جنس الأولى، بل هما اختان شقيقتان لأم واحدة هي السياسة العمياء. ففي المؤتمر الرابع للاتحاد الديمقراطي (فدا)، لم يكن الأمر إلا من جنس التفاهة والضلالة الفكرية. إذا كيف يدعي حزب أنه تنويري وديمقراطي ويطرح نفسه بديلا وطريقا ثالثا ويعامل أبناءه تلك المعاملة وخاصة في الانتخابات التي تأجلت ثم تكولست وأعدت الطبخة جيدا وأفرزت قيادة جديدة تحت وهم “الديمقراطية”، وهي في الحقيقة نهج عشائري قبلي دكتاتوري يجسد النهج السياسي الاجتماعي في البلد، بل وينبثق منه ويعود إليه، كأنه قطعة منه. حزب لا يحمل رؤيا ولا يدافع عن المظلومين ولا عن المسحوقين ولا يقف أمام الفاسدين المنتهكين للقانون، ويدعي زورا وبهتانا أنه يدعم الطبقة العاملة والعمال والكادحين. إنه في حقيقة الأمر لم يكن أكثر من رِجْل ثالثة لسلطة كسيحة تجرّ ما تبقى من جثتها فوق أطلال وطن لم يبق منه غير رواتب الموظفين والجعجعات الفارغة.
لقد كنت أتمنى أن أخرج من العباءة القديمة وأتحرر، وإذ بي أدخل تحت عباءة مهترئة لها ذات العقل والتفكير، وأصبح لا خلاف في الجوهر بين الإسلامي أو العلماني أو اليساري فكلهم في التفاهة سواء، لهم المنطق نفسه والعقلية ذاتها مع اختلاف في الألفاظ المستخدمة للضحك على الأتباع، ولكنك إذا ما حللت الكلام والفكرة ستجدها واحدة، فكلهم يقولون المعنى ذاته بجمل وتراكيب مختلفة.
بعد كل ما سبق بيانه وشرحه مع أنه لا يستحق الكتابة، لأنه يزيد في النفس منسوب القهر والعلة والقرف والاشمئزاز، لم يتبق لي غير قناعتي الشخصية التي أدافع عنها بشراسة، غير منتظر من أحد مكرمة أو مَعْطَفة، رضي من رضي فليس يهمني، وغضب من غضب، وأيضا ليس يعنيني. فبعد أن يرى المرء كل تلك الأمراض وهو لا يستطيع علاجها فالأسلم له أن يعتزل كي لا يصاب بالعدوى مع ضرورة احتفاظه بكرامته وحقه في أن يرى رأيه، فليس لأحد عليّ يدٌ لأطأطئ رأسي خجلا منه. فأنا ابن نفسي ولست ابن التنظيم، ولكم دينكم ولي دين.
0 تعليق