بين الجابري وطرابيشي
اعتبر الجابري أن اللغة من مكونات العقل العربي، وذلك لما تحمله اللغة العربية من قداسة و تمايز، يمدان العربي بإحساس العزة والفخار. وربما على الأرجح، بإحساس ديني. فقد تواءمت العربية مع القرآن، مثلما تواءمت اليونانية مع الملاحم الهوميرية التي قامت مقام الوحي، والهندية السنسكريتية مع البْهَاغافا غيتا أو الفيدا. فقد كان الهندوسي مضطرا ــ لأداء القسم أمام المحكمة ــ أن يضع يده على أشياء مقدسة، منها كتاب الريغفيدا ولأن الأخير كان كالقرآن سببا في وضع قواعد اللغة، ومعصوما من مس الناس حل مكانه كتاب آخر أقل قدسية هو الغيتا أو انجيل الهند. وكان الهنودُ وبدافع حفظه، أولَ واضعٍ للنحو. والبْهَاغافاد هو الإله كريشنا، راعي بقر له توجهات فلسفية. كثير من اللغات لها طابعٌ أو منشأ قدسيُ. يفاخر أهلوها بمنشأها وبيانها. يقول الجابري إن العربي وحده من يستجيب ويرتفع الى المستوى الرفيع لبيان العربية. ووحده من بين الأعراق جميعا من هو بمستوى التعامل معها والتعبير بسُمُوِّ بيانها. لذا حدَّد ماهية العربي بالفصاحة فقال: “العربي حيوان فصيح”. ولا يُخفى ما في هذا الحد من تلاعب منطقي، يُقيم به الجابري علاقة قسرية ومفارقة بين الفصاحة التي تعني فيما تعنيه اللغةَ، وبين العقل الذي يحدد ماهية الناس.
وكان الجابري، بهذه المفارقات المزعومة، قد أقام علاقة ضدية للعقل العربي مع العقل اليوناني. نظرية أو نظرياتٌ عمل طرابيشي على تفكيكها ونقضها بضربٍ من الصبر يشبه “الإسترقاق الذليل”، فقال في مقدمة كتابه: “ليس لنقد النقد أن يصيب حظا من المصداقية ومن النجاح في إصابة هدفه، ما لم يقيِّدِ الناقدُ نفسَه بمنقوده، ويحذو بما يكاد يشبه حذو النعل بالنعل”.
وحذوُ النعل بالنعل يُدخِلُ الناقدَ كما القارىءَ في بحر من التفاصيل، تنطوي في بدايتها، منعا لملالة القارىء، على وعد بالتحرر من حبائس الجابري.
في حفرياته النقدية قال طرابيشي إن أرسطو عرّف الإنسان بأنه حيوان عاقل، وهو تعريف لازم الفلسفة اليونانية. فلا تعريف للإنسان بغير العقل. غير أن الجابري بمغالطاته المنطقية، وضع العربي في ضدية مع التعريف اليوناني، وهي ضدية يرغبُ دائما في إقامتها. اليوناني حيوان عاقل، والعربي حيوان فصيح. ولا يُخفى ما في هذا الحد الأخير من تبخيس عن الحد الأرسطي. وقد كان الناقل العربي القديم أكثرَ قُربا من روح اللغة اليونانية وأكثرَ تضلعا فيها، عندما نقل الحد الأرسطي الى العربية بقوله: إن الإنسان حيوان ناطق. ويتابع طرابيشي قائلا: “إن العودة لمفردات أرسطو تفيدنا، كما يفيدنا المنطق اليوناني، “أن حد الإنسان هو حيوان لوغوسي لا حيوان نوسي. ولوغوس في اليونانية لا تعني عقلا فقط، بل كذلك لغة وبيانا ومقالا وحتى حسابا”.
وقد لعبت الكلمة دورا مهما في الفلسفة وفي الدين لتكتسب معاني متعددة: فهي اللغة. وهي العقل الكلي للكون. وهي الله عند يوحنا، المبدأ الفعال في الهيولى. وقد وجد آباء الكنيسة في اللوغوس، مساواة بين الفلسفة والدين. وحسب المجامع الكنسية، اللوغوس هو مساواة بين الله وبين الإبن الذي هو الكلمة. ومن العلماء من قال: إن كلمة “لغة” العربية ذات أصل يوناني وهي نفسها اللوغوس التي تعني الكلمة أو الكلام. واستعمل أرسطو كلمة النوس للتفريق بين المفهوم والإدراك الحسي. يتكون النوس من معلومات يشكلها الإدراك الحسي. وهو بمعنى القدرة على التفكير بعقلانية. وأخيرا انتزع عِلما النفس والعلوم العصبية من الفلسفة مفهوميْ الإدراك والإدراك الحسي ليصبحا عِلمين خاصين بهما. وربما تكون الإلياذة أول الكتب التي أشارت للنوس عندما قال أغاممنون لآخيل: بالرغم من عظمتك الإلهية يا آخيل لا يمكنك خداعي بنوصك (بمعنى ذكائك وفطنتك).
إن اللوغوس مفردة لا تعني في اليونانية العقل فقط، وإنما العقلُ والكلمةُ. فهي أقرب إذا لمعنى القوة الناطقة التي استعملها الفلاسفة العرب بدل القوة العاقلة والتي تتضمن في نفس الوقت القدرة على الكلام. وهكذا يبدو الجدار العازل الذي أقامه الجابري بين العقلين جدارا واهيا ومصطنعا لاحقيقة له.
تقول فلسفة اللغة الألمانية (Johann Georg Hamann): إنما العقلُ أيضا لغةٌ، لوغوس، “مما يعني تجلي اللوغوس ليس في الإنتاج النظري للفلاسفة وإنما في آداب الشعوب وأساطيرها ومأثوراتها الشعبية والفولكلورية” لكن ماهية الإنسان عند الجابري على خلاف الفلسفة الألمانية تتحدد إما بالعقل وإما باللغة وذلك بدافع ابقاء المفارقة قائمة بين الماهيتين: اليوناني حيوان عاقل، والعربي حيوان فصيح. وبين الفصاحة والعقل بون شاسع خاصة في عالم الحداثة. يعلل ذلك طرابيشي فيقول: بينهما فروقات كثيرة، فللعقل “مكانة غير مسبوقة في السيطرة على عالم الأشياء، بينما الفصاحة صناعة قديمة من عالم الخطابة. الفصاحة ما عادت مرادفة إلا للجعجعة بلا طحنٍ، في عالم تتجه فيه الفعالية التاريخية الى الطحن بلا جعجعة”.
من ناحية أخرى، يُعتبر تقديسُ اللغة (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) وتعجيمُ غير الناطقين بها صفةً لازمت الحضارات جميعا. فالسنسكريتية تعني: اللغة الكاملة. وبربارا أو فرفارا تعني: العُجمة فيها. وقد اعتمد الجابري مثلما اعتمد من بعده طرابيشي على لسان العرب في تعريف العجمة. فالأعجم الذي لا يفصح ولا يُبيِّنُ وإن كان عربي النسب. والعجمي جنس العجم. ورجل أعجمي إذا كان في لسانه عُجْمةٌ وإن أفصح بالعجمية. والأعجم الذي في لسانه حُبْسَةٌ وإن كان عربيا. والأرجح في كلمة بربارا أن أصلها أكاديٌ. وهي بمعنى الذئب. بينما أطلقته البابلية على الأجنبي “بربارو”. وفي المعنين قرابةٌ. ويعود للرومان سبقُ إلحاقِ الحمولة السالبة بالكلمة. عندما أطلقوا الإسم على القبائل الجرمانية المتوحشة التي هاجمت روما. وما زالت هذه الحمولة السالبة متوارثة بالرغم من وضوح المعنى في لسان العرب. فالبربرة كثرة الكلام. وبربر الرجل إذا هذى. والبربري كثير الكلام بلا منفعة.
ومن حبائس الجابري التي يأسر بها قارئه قولُه ان العربي هو الوحيد الذي يستطيع الإستجابة للعربية والإرتفاع الى مستواها التعبيري. فالعقل العربي بعرفه مريضٌ بلغته. وقد سمعتُ أصدقاء لي في سهرات السبت يصفونها بالبداوة والحسية ويبخّسون من قواعدها (ولو غضب العلايلي). آلمني قصورُهم. والسبت ضيق للحوار، يزوغ كلامُه عن قصده يمينا وشمالا. قلتُ: – وأنا المعجب بالكاتب الكبير جورج طرابيشي، الذي أعاد بناء الواقعة اللُغوية في نصابها الحضاري – قلت: أدعوهم لقراءته علَّ القراءة تنقلهم من بؤس الدوغمائية وأحكام البداوة التي يرزحون بثقلها، الى رحاب العقلانية وفضائها الواسع . لو صح زعمُهم أو زعمُ الجابري لتعذر تفسير ما تميزت به اللغة العربية من طواعية في التحديث والتجريد من زمن الدولة الأموية وما تفتح فيها من صوفية واعتزال، الى العصر الذهبي للدولة العباسية بأمراء بيانها الذين كانوا – على ما يقول طرابيشي – من الأعاحم: فقها وعِلما، نثرا و شعرا، تجريدا وتجديدا في اللفظ والمعنى. بدءا من “ابن المقفع وعبد الحميد الكاتب مرورا بالجاحظ والتوحيدي انتهاء بالحريري والغزالي. وبدءا ببشار وأبي نواس في الشعر انتهاء بأبي تمام وابن الرومي إضافة لمن تولوا التقعيد في اللغة كسيبويه وابن جني”.
عدَّدَ الاصدقاءُ أسماء كثيرة لليل والمطر والأرض المَحْلة، جمعوها من أيام البداوة الأولى ونشروها على موقع السنابل. وهي في الحقيقة ليست أسماءً وإنما صفاتٌ تنوب مناب الإسم ولا تتداولُها لغة الحداثة اليوم، فهي من مخزون المراحل الصحراوية. فلمَ تعدادُها؟ ثم التعجبُ من ندرة استعمالها؟! إنها أسماءٌ أو صفاتٌ من ماضي اللغة التي تتطور باضطراد لتكتسب مفرداتٍ جديدةً بحمولة أسهلَ في اللفظ وأعمقَ في المعنى. “الكلامُ يفتحُ بعضُه بعضا”، والنفسُ على ما قال الفارابي تتشوّق الى الدلالة على ما لا تفي الإشارة بالدلالة عليه. الحداثة أيها الأصدقاء ظاهرة طبيعية وإن ظل القدماءُ حُجة في اللغة. القدماء أكثر أصالة، والمحدثون أكثرُ تغييرا فيها وافضلُ ابتداعا وخلقا للمعاني التي يضيفها الأفراد الى قاموس اللغة. والإضافة أصلا، صناعة فردية تزيدُ اللغة ثراء، وتُغنيها بصورة تلقائية ومتواصلة. أو بتعبير أدق تُغيّرها، بلا حكم من أحكام القيمة. الكُتاب والشعراء وما تحملُ الترجمةُ… يحولون اللُغات القومية حتى المنعزلة منها الى أوعية متصلة. فكل اللغات قابلة للترجمة. والنحوُ الذي تغيظون به العلايلي وابن جني، عَظْمُ اللغة. وأنا حريص على رضاهُما، فالنحو يمسك اللغاتِ جميعَها كما يمسك العظمُ الجسدَ. وقد تكلم علماء اللغة بما فيهم عالم اللسانيات الجليل شومسكي عن نحوٍ كلي (Grammaire universelle) فلا لغة بلا عظم.
إن استعصاء اللغة على التطور أيها الأصدقاء، فكرة من خارج سياق العلم فلا تغرَّنكم أحكام من خارج سياقه. العلم يؤكد – كقانون حتمي – على تطور جميع اللغات بما فيها الميتة. فلا تحمّلوا اللغة قصورَنا ولا تبعة تخلفنا، وهي التي أنتجت عقلين مفارقين أو عقولا مفارقة. “فلو سمّى المحدثون، كما يقول من نصحتُكم بقراءته، أجزاءَ السيارة والطائرة والتلفاز والحاسوب، عل نحو ما سمّى القدماء أعضاء البعير لما بقيت قطعُ الغيار لهؤلاء جميعا بلا تسمية في العربية الحديثة”. ليست اللغة هي المتخلفة يا سادة وإنما نحن المتخلفون. واللغة مظهرُ التخلف، نتاجُه، علامتُه وتعبيرُه. وما قلتُه لا يعني أن اللغة كاملةٌ ومتعاليةٌ على النقد، فيها من الشوائب والعثرات ما لا يُحصيه الناقد. لكن لا نقدَ من موقع اللا معرفة، فشرطُ النقدِ العلمُ. ولو وجدتم في لسان العرب أو العين ما وجدتم من أسماء الليل و السيف و الأسد… وفيهما الكثير، فلا تتعجلوا الحكم جُزافاً ببداوة اللغة وحسِّيتها. لقد كان ابن منظور ابنا لعصر الإنحطاط صنع قاموسَه كما قال، تحت عبء السخرية ومرارة الإنحطاط كما صنع نوحٌ فلكه. ومن العبث أن تطالبوه بلغة ومصطلحات خارج عصره.
“لا تتخلف اللغة أيها الأصدقاء ولا تتقدم إلا بقدر ما تتخلف أو تتقدم الثقافة الحاملة لها”.
وبالعودة لجدلية الإعراب والإعجام فقد كتب الجاحظ عنها، لكنه لم يتطرّق لهذه الجدلية كما تطرق اليها فلاسفة اليونان. فالبربري في المعجم اليوناني هو نقيض الهليني. وعلى هذا التمييز الإثني بُنِيت النظرية اليونانية للعبودية. وقد كان أرسطو نصفَ بربري بحكم أصوله المقدونية. ومع ذلك ميّز بين من هم عبيدٌ بالعرَضِ، ومن هم عبيد بالفطرة استعبادُهم “واجبٌ أخلاقي وخدمة تؤدى لنظام الكون”. أما الجاحظ وفي ذروة المد الشعوبي، لم يُجرِ معارضة من وجهة نظر إثنية، بل معارضةٌ مبنيةٌ على “تفريق وتقييم وترجيح من داخل ميزان الحضارة”. وكان ابنُ خلدون ثانيَ أو ثالثَ من حاجج به طرابيشي في فهمه المدهش لهذه الجدلية فقال: إن العجم هم صانعو التقدم في حضارة العرب ومهندسو عمارتها، والسبب في ذلك أن العلوم بطبيعتها علومٌ حضرية، الصنائعُ من توابعها. والحضرُ لذلك العهد هم العجم الذين حفظوا العلم وقاموا بتدوينه. لكن الظاهرة الفريدة في فكر هذا النابغة، هو فهمه المتميز لطرفيْ الجدلية، بما يشكلانه من طريق مزدوج للإندماج في الثقافة الواحدة. فالإستعجام “مفتاحُ العلم مثلما الإستعرابُ مفتاح اللغة”. ذلك أن الإنتساب للثقافة العالية، العالمية بلغة اليوم، لا يتأتّى حتى للعرب الصحيحي النسب، إلا بقدر ما يستعجم العربي في لغته ومرباه ومشيخته”.
وأخيرا أيها الأصدقاء، أحب أن أنقل اليكم ما قاله الأستاذ الفرنسي الكبير في “المدرسة القومية للغات الشرقية الحية” البروفسير Gérard Lecomte عندما وضع الشيء في موضعه فقال: “إن للغة العربية بُنيةٌ تمتاز بنظامية مورفولوجية ونحويةٍ مدهشة، شبه هندسية، وبالتالي عظيمةُ الإغراء للعقول الديكارتية”.
مقالة معرفية مكثفة مدهشة وفيها زخم موسوعي متنوع وجاذب وهي شيقة ايضا بل وممتعة…
Cher ami et cousin Adel
Je sais bien que tu ne désires pas faire des commentaires sur le site. Les gens ne connaissent pas ton caractère extrêmement docile et bienveillant. Cependant , il reste qu’un seul mot de ta part peut combler une abîme qui ne s’avère pas être une réelle abîme. C’est à toi de prendre le choix quelque soit la réaction des autres. Mes meilleurs sentiments.
Une erreur s’est glissée: un abîme à la place d’une abîme!!
من أجمل ما قرأت …
وما أروع حروفكم المكتوبة بلغة الضاد …
فبشرحكم للقارئ عن جدلية الإعراب والإعجام بأسلوب نيّرٍ ،سلسٍ ومنمّق …
جعلتم حروفكم تدخل القلب قبل العين ، فاللغة فعلا كما تفضلتم بالقول في مقالكم هي (العقل الكلي للكون) …
فكيف إذا كانت لغة الضاد وكلّ حرف فيها أسطورة من ألفها إلى يائها !!!
مريانا أمين قانصون .
السيدة مريانا أمين قانصون، الناقد السينمائي الاستاذ مهند النابلسي اللذان منحاني من الثناء الجميل أكثر مما أستحق. طبيب الأعصاب الدكتور شوقي يوسف الذي يريد أن يلعب بأعصابي فيدعوني الى دوامة النقد. إني أشكركم أيها الاصدقاء وأقدر أقلامكم التي تسخرونها من أجل زيادة المعرفة، خاصة في مجاليْ النقد ونقد النقد. لكني لا أملك موهبة التعقيب على ما يُكتب، ولا أرغب في امتلاكها لما تتطلب هذه الملكة من جهد ودراية في الأحكام. اعذروني فقد أقلت نفسي من هذه المهمة الشاقة.
تحيتي وتقديري لكل الزميلات والزملاء
شكرا صديقي وقريبي عادل.
الآن اعفيك من شغل التعليق. لياقتك الكبيره تحكي عنك قصة اديب يهنئ من يقترب منه.الآن المزيد من النصوص الذهبيه بانتظارنا. يا لها من متعة لا تنضب.
5 Août. ABC Verdun
Je suis assis seul au dernier étage d’un grand bâtiment de luxe. Je prend un café en attendant ma fille Reina, mon épouse et notre femme de ménage. L’ambiance est cordiale et chaleureuse. Des gens autour de moi causent, gesticulent, rient et quelques uns sont moroses et taciturnes. Il est bien de vivre dans l’abondance. Je pense plutôt aux démunis qui n’ont aucun accès à cet endroit d’enchantement. Il me vient à la tête l’idée d’un Dieu injuste dont le partage est malheureux. Si on s’y réfère, un déséquilibre est toujours là menaçant le genre humain, c’est-à-dire un monde chaotique où Dieu n’y peut rien faire ou défaire. La tristesse est l’aboutissement d’un tel spectacle dans les 4 coins du monde.