إسوارة العروس مشّغولة بالذهب.. قالت “السيدة فيروز” وقصتي التي سأسردها لكم..! ليست مشغولة بالذهب! ولا مطرزة بخيوط القصب، ولا حتى مكتوبة بمداد..! تخطها لكم أنامل امرأة كانت تنظر إلى الغد بلا عيون؛ بريشتها المغموسة..! بدماء القلب! ليس لأنّها تريد أن لا تغيب حكايتها المؤثرة في تجاعيد النسيان..! أو..! لتكون طعنة نجلاء؛ في صدر من يحاولون ستر آلامهم ومصائبهم ببضع وريقات توت، خوفا من الشماتة أو الشفقة!
بل لأنها قصة امرأة أعتقت من سيرورة موت لصيرورة حياة، بفضل جائزة من السّماء.. تلك الجائزة التي يرسلها الله لهؤلاء الصابرين الذين ينتظرون بصبر ورجاء، نعمة أو حكمة أو حتى..! حدث، قد يغيّر مسار حياتهم.. وكان النبي أيوب الذي ابتلي بالمرض والفاقة أشهر الصابرين حيث حظي بدنيا كاملة كانت تنّتظره بفضل صبره، الذي كان أشد مرارة من الصبر..
عندما اقترنت بزوجي أنا المرأة الحسناء المثقفة التي تنافس عليها نصف شباب القرية كان والديّ غير موافقين، وطالما نصحاني بعدم الارتباط، فالشاب رغم مظهره الخارجي الجميل، هو فاشل كما يعلم الجميع، ولكن كما تعلمون الحب أعمى..
ولم يمض على زواجنا بضعة أشهر حتى سقطت كل الأقنعة، واتضح لي أن زوجي ليس فقط إنسان فاشل واتكاليّ,، بل لم يفلح بالحصول حتى..! على اللقب الأول.. ورغم أن الكل كان يعلم أنني امرأة صلبة المراس، عصبية المزاج، ولكنني حاولت أن أستر كل عيوبه! ففي كل الأحوال أنا التي اخترته! ولا يحق لي أن أتذمّر أو أشكو “خاصة أمام أهلي”.. وتحوّلت للمعيل الأول في العائلة بسبب فشله المتواصل..
كنت أعمل ليلا نهار وأركض كالمجنونة، اجتهدت أن أحصل على اللقب الثاني، أنا المرأة المهووسة بالألقاب وكان زوجي صامتا ساكتا.. أنا..! أصعد نحو القمة، وهو ينحدر نحو الهاوية.. هاوية الفشل.. نعم..! أهملته زوجي.. كما..! أهملت ولديّ الصغيرين الذين تعهّد هو بتربيتهما، وفرضت على البيت قوانين صارمة بعد أن علّقت له جدولا أسبوعيا ثابتا لا يتغير أو يتبدل..
كانت عقارب السّاعة تتحكّم في كل دقيقة وثانية من عمري، ويا ويله زوجي إن طرأ أي خلل في الجدول الأسبوعي! كم كنت قاسية معه.. حاول مراتٍ عديدة استعادة ثقته بي..! ولكنني كنت أعيّره بفشله حتى..! أمام ولديّ الصغيران.. وعندما كانت والدته تحاول أن ترطب الأمور بيننا..! كانت هي الأخرى تحظى بغير القليل من التجريح والاتهامات.. ويل لي ما فعلت بحياتي أنا الامرأة الطموحة التي كانت تلهث وراء أجندة وهمية.. هذه الأجندة أو الطموحات كما تُريدون أن تُسمّونها، تحكّمت في جودة حياتي وفي علاقتي مع زوجي وأولادي وأقرب الناس إليّ! وحتى وإن منحتني الكفاءة التي أوصلتني للقمة ولكن ما قيمة هذه القمة التي شتّتت في داخلي الرؤية الصادقة والإبداع! وجعلتني أفقد من أجلها لحظات قيّمة في حياتي! لحظات قد لا تشرق في سماء العمر، إلاّ مرة واحدة..
عندما كانت هبّات الحم تًهاجمني المرة تلو الأًخرى، كنت أكتفي بتناول قرص “أكامول” وفنجان زهورات وأعود لحياتي الرتيبة، التي لم أُبرمجها لحالات الطوارئ، ظنّاً منّي أن مركب الحياة يسير كما أريده أنا..! متجاهلة يد القدر، التي بوسعها أن تقلب حياتنا رأساً على عقب في أسرع من ارتداد الطرف وتقليب الكف!
لم يعد بمقدوري أن أتجاهل هبّات الحم التي أجبرتني أن التزم فراشي أياما طويلة.. نصحتني إحدى زميلاتي في العمل بأن أذهب لقارئة فنجان بعد أن أقنعتني بأن “العين تأخذ حقّها حتى من الصخر!” ومع إنني لا أؤمن بهذه الخزعبلات، أنا الإمرأة الأكاديمية المتعلمة، ولكنني ذهبت تحت إلحاح تلك الصديقة.
عندما دلفت لبيت تلك المرأة، شعرت بالخوف والرهبة ليس فقط من رائحة البخور التي يعبق فيها، بل من نظرات تلك المرأة الحادة وحضورها المهيب!
جلست أمامها كطفلة صغيرة تنتظر بلهفة حكاية جديدة من جدّتها العجوز.. عندما أمسكت فنجاني البائس الذي كحّلهُ اللون الأسود وبدأت بفراستها المصطنعة، شعرتُ وكأنّها غابت تماما في داخله، عندما ربطت كل الرسومات التي في الفنجان من حيوانات وأماكن وأشّخاص وهمية بأدق تفاصيل حياتي.. ولست أدري كيف نجحت في إقناعي بأن أقرب الجارات إليّ وأحبهنّ إلى قلبي..! هنَّ ألد أعّدائي.. ووصفت إحداهن بالعقرب السوّداء والأُخرى بالحية الرقطاء.. الأنكى من ذلك؛ أنها أوهمتني أن حماتي التي كانت تعبد زوجي وأولادي، تخطط بأن تفرّق شملنا عن طريق الشعوذة والسحر ونصحتني بأن أشطف بيتي كل يوم جمعة بدلو ماءٍ، قد أًذيبت فيه حفنة ملح، لكي أبطل مفعول السحر..!؟ ثم أًعلّق حدوة فرس قديمة.. في مدخل داري.. لكي ترد عني وعن زوجي وأولادي العين والحسد.. ونقدتها بمبلغ لا بأس به، وفارقتها بعد أن أكّدت لي أن ثمة شِدة عظيمة سوف تلم بي.. وإنني سأجتازها بعون الله لأنه ثمة “طاقة فرج” تنتظرني على حافة الفنجان! سامحها الله تلك المنجّمة، صحيحٌ أنّنا في زمن أصبحنا نعيش فيه مثل الأجانب “كل واحد يتقوقع في حاله وفي بيته” ولكنني أحب جاراتي ولا أحمل ضغينة لحماتي! وها هي تلك المنجمة الجاهلة توغل صدري بتلك الأفكار المسمومة..
قاطعتهن جاراتي الطيّبات؛ ومنعت زوجي حتى من تناول قهوته الصباحية مع والدته، أقرب الناس إليه..! وعلّقت حدوة فرس صدئة على مدخل داري ظنّاً مني أنّها ستقينني من دارهات الدهر ونوائبه..
كم كنت غبية وحمّقاء..!
عدت إلى عملي ودورات الاستكمال التي كنت ملتزمة بها وتجاهلت آلامي ونوبات القيء والغثيان التي كانت تنتابني بين الفينة والأخرى، كنت ألهث كالمجنونة وصدقوني لو تريثت قليلا لأتت الأشياء إليّ لاهثةٌ..
نهضت يوماٌ ما على أثر يدٍ استقرت على كتفي وصوت بكاء من خلفي، كانت تلك اليد يد زوجي ونحيب أمي وحماتي، نظرت حولي كالملسوعة لأجد نفسي في المًستشفى.. كاد لساني ينعقد عند حضور الطاقم الطبي ولكن دموع زوجي ووالديّ وحماتي..! أكدت لي الخبر بإصابتي بهذا المرض الخبيث!
أنكرت ذلك ونهضت كالمجنونة أبحث عن حذائي، لا أُريد شيئًا سوى أن أعود لبيتي وأرى أولادي ،احتضني زوجي ووالدي وأعاداني للسرير بعد أن أعطتني إحدى الممرضات جرعة دواء مهدئة.. واستغرقت في نومِ عميق..
بعد أن خضعت للعشرات من الفحوصات المخبرية والإشعاعية، تبيّن أنّ ثمة ورم خبيث بدأ ينتشر في أغلى ما تملكه كل امرأة.. وإنني قد لا أحظى بنعمة الحمل.. أبد الدهر..!
تخوم أسف بدأت تلوْح لي بمنديلها، أسف على كل دقيقة بل وثانية لم أُشارك فيها زوجي وأولادي اللحظات الجميلة التي لن تعود! يوم..! درج ابني الكبير خطوته الأولى.. يوم..! امتنعت عن إرضاعه بحجة ضيق الوقت رغم توسلات أُمي وحماتي.. يوم..! أخرج ابني الصغير رأسه من تحت اللحاف وطلب مني أن أحكي لهُ حكاية بعد أن سقطت أول سن له.. حيث زجرته وهددته بالحرمان إذا لم يخلد لسلطان النوم في خلال دقيقة واحدة، كم كنت سادية وأنانية! ليتهم يفكون تلك الأسلاك المقيتة، لأعود وأحتضنه، وأحكي له كل القصص التي أعرفها..!
وزوجي الحبيب..! من انتقاه فؤادي.. كيف سمحت لنفسي بأن أحوّله “لبيبي ستر” وأسلبه هيبته كرجلٍ، دون أن أمنحه أية فرصة لكي يستعيد ثقته بي! كم كنت عمياء..! بعد أن أثبت لي في هذه المحنة أن حضوره ومساندته، وحبه الصادق، يضاهي كل التحديات التي أشغلتني عنه.. وعن بيتي وأولادي! وحماتي الطيبة التي لم تترك زوجي في محنته أبدا، كم أنا بحاجة لدُعائها الشفيف، في كل مرة كنت أخرج فيها إلى عملي “دربك أخضر يا بنتي..” ليته..! يعود أخضر! وجاراتي العقرب السّوداء والحية الرقطاء، اللتان غمرتا أولادي بحنانهما وكرمهما، كم أنا ممتنة لهما! تبا لتلك المنجمة التي أوغلت صدري بأفكار مسمومة.. التي ما هي إلاّ أعشاب ضّارة تلتف على سنابل الخير وتخنقها قبل أن نجني الغلة.. ليتني أتسلّق سلالم عمري المنفلت مرة أخرى.. لأعيش كل دقيقة بل كل لحظة فوّتها بين أحبائي..
في رأسي يعج حنين كاسر للشفاء، بعد أن فقدت شعري الحرير الذي تساقط كأوراق الخريف، أثر العلاجات الكيماوية المؤلمة التي خضعت لها.. الشيء الوحيد الذي صدقت به المنجمة الجاهلة هي تلك الشدة العظيمة التي ابتليت بها! وما عليّ سوى أن أتمسك بتلابيب الصبر وأنتظر.. كن بي رحيما يا ربي.. لم يعد في قلبي مُتسع لألم جديد..
فوجئت ذات يوم بحضور مفاجئ للطاقم الطبي وكان زوجي يرافقهم صامتاً واجما، وعندما أمسك يدي ونظر إليّ بشفقة أدركت أن خطبا ما سوف يحدث.. بدون مقدمات أخبرني الطبيب المختص أنه يجب إجراء استئصال سريع وإلاّ سينتشر المرض في كل أنحاء جسدي! شعرت أنني تلقيت صفعة جديدة، بعد أن كنت مؤملة نفسي بالشفاء السريع وبحمل أخر! ولكن عودتي للبيت، لأولادي وزوجي..! سالمة معافاة، كان أهم شيء بالنسبة لي.. وافقت دون أن أُفكر مرتين! أنا ألإمرأة التي أسلمت مراسيها للريح، ربما يجُرني شراع القدر هذه المرة، لميناء هو الأجمل..!
بعد أسبوع من النقاهة؛ عدت لبيتي كعصفورة متلهفة لقطرة ماء، وجدتهُ مرتّبًا نظيفًا بعد أن جهِدت جاراتي في ترتيبه وتنّظيفه، وارتأت حماتي أن تحضّر لي الطعام الذي أُفضِّله واستقبلني ولدايّ “مهجة روحي” وزوجي الحبيب بباقات الزهر..
دلفت مباشرة إلى المطبخ ومزّقت الجدول الأسبوعي الذي علّقته لزوجي على الثلاجة دون أن أُفكر مرّتين..! هذه التجربة المرة التي جعلتني طرية كمنديل العروس، لا أجرح أحَدا! علّمتني..! “أن الله سبحانه وتعالى” يأخذ منّا.. لكي..! يُعطينا، ويحزننا..! لكي نعرف قيمة الفرح.. ويبتلينا لكي نفتّح عيوننا على الأفّضل..
حاز زوجي على اللقب الأوّل؛ وتبادلنا الأدوار.. بعد أن عثر على وظيفة محترمة والأهم من ذلك إنني عدت امرأة سليمة البدن والروح! آه..! ما أثّمنها تلك الجائزة التي منحت شرفة عمري فرصة أُخرى بأن تتسع وتُزهر في أحواضها خصب المواسم.. والتي سمحت لي أن أستقبل نور الشّمس وأتبادل ياسمين الكلام مع من أُحب! تلك الهبة الإلهية..! لا نقترضها من البنوك، أو..! نشتريها من المنجّمون! وليس بمقدور أحدكم أن يمنحنا إياها..! إنّها نعمة يرسلها لنا الله من السّماء! إنّها جائزة.. السّماء!
0 تعليق