– 1 –
* تم تسريع الأحداث حاسوبياً، هكذا عرفت مصائر الناس وتواريخ الأحداث، هناك في المركز السري للأبحاث، اطلع رئيس العلماء على كل ما يجري وسيجري بناء على معطيات دقيقة، وبيانات واضحة، وبعث ببرقيات إلى مجلس الأمن الدولي، وأفادهم بما سيحدث خلال المئة عام القادمة وبدقة كبيرة وحيود لا يتجاوز العشرة بالمئة، فأصيب عدد كبيرة منهم بالإحباط، وقرر بعضهم التنحي بعد أن عرفوا مصائرهم ومصائر قومهم وبلادهم.. بينما قرر آخرون الاستمرار في مناصبهم مع مزيد من الملل الناتج عن معرفة القدر.
* فقدت الاتصالات الشخصية مغزاها، فالكل يشاهد الكل الكترونياً، واختفت الخصوصية، فالانترنت قادرة على معرفة أحاسيسك عندما تكتب رسالتك وهي ترسل أحاسيسك مشفرة للمرسل إذا اراد.. فلا مجال للخديعة، هكذا قلت مجالات استخدام الذكاء البشري، وضعف التواصل الإنساني.
– 2 –
* ندم سكان البلد “الفلاني” عندما طبقوا أنظمة التماثل البيولوجي، فالنساء كلهن شقراوات أو حنطيات جميلات وطويلات وفاتنات، والرجال كلهم وسيمون، طوال، عراض المنكبين، أذكياء، لماحون.. وعلامات التلاميذ في المدارس كلها مرتفعة متميزة، والكل يمارس الإبداع والاختراع، ولا أحد يعاني من مشاكل مالية أو اجتماعية، والناس يمارسون حياتهم بحرية وسعادة، والصحة تتجلى في الوجوه والسحنات، فقد اختفت معظم الأمراض، وارتفع مستوى الأعمار إلى مئة عام أو يزيد، واختفت أمراض الشيخوخة… وأصبح هناك نواد خاصة للشيوخ يمارسون فيها حياتهم وهواياتهم، وارتفعت سن التقاعد إلى إلى ثمانين عاماً أو يزيد، ومعظم الشركات تسعى للاستفادة من خبرات الشيوخ ومهاراتهم المتراكمة عبر السنين.. اجتمع مجلس الوزراء، وقرر فجأة فتح باب الهجرة لبعض سكان العالم الثالث ضمن نسبة محددة تزداد سنة بعد سنة، فقد شعر السكان بالملل الشديد من التماثل والتطابق، وقرروا أن نسبة محددة من المشاكل تزيد من عنصر الإثارة وتشعر السكان بالتميز وتجعلهم يقدرون المنجزات، فمن شأن هذا التفاوت أن يخلق نمطاً تنافسياً يزيد من متعة الحياة.
– 3 –
* توقد الذكاء الإلكتروني، فإذا أردت أدباً رفيعاً فما عليك إلا أن تكبس على زر في الانترنت، فتفاجئ بالخيارات: أدب تاريخي – أدب كلاسيكي – أدب تقليدي – أدب خيال علمي – أدب بوليسي – أدب إباحي.. كل شيء كما تريد، وإن أردت صور أو رسومات تعزز من تأثير الحالة القصصية، فعليك أن تكبس على زر آخر فتظهر صورة أو رسمة معبرة.. ونمت أنواع متعددة من الذكاء الصناعي القادرة دوماً على الإبداع، فتراجع الإبداع الذاتي الشخصي للأدباء والفنانين، وانزوى إلى الظل والنسيان، واختفت الجوائز الأدبية المحفزة.. وسخر الحاسوب فجأة من الجميع، فأصدر ضحكة الكترونية هائلة، ذات صوت معدني رنان: ها ها ها ها … هههههههها ها!!
*اختفى الفنانون كذلك، فأصبح بإمكان أي شخص يفتقد لموهبة الرسم والإبداع أن يدخل على برنامج الفنون ويكبس زراً ويرسم أي لوحة يريدها بعد أن يضع المواصفات التي يريدها.. فتظهر لوحة تعبرعن فن كلاسيكي أو تعبيري.. أو تشكيلي.. أو تكعيبي..وصولا للسريالية.. حتى النحت لم ينجو من طغيان الآلة الذكية، فهناك أجهزة روبوتية تعطيها جبلة الطين فتشكلها كما تريد أنت، مصدرة أشكال نحتية فائقة الدقة والجمال والغرابة وحسبما تريد، فقط بكبسة زر!
– 4 –
*عبث الطفل الجميل “باسل” بالجهاز السري الجديد، حيث دخل خلسة للغرفة السرية، وما هي إلا لحظات فإذا به يختفي بعد أن انبثقت أشعة خاطفة أضاءت الغرفة، وبحث عنه والداه طويلاً دون جدوى، وأخيراً تبين لوالده العالم المرموق أن ابنه قد أصبح ضحية اكتشافه السري، فالجهاز قادر على تحليل جزيئات الجسم البشري وتفتيتها إلى أصغر المكونات ثم تجميعها في مكان آخر. واكتشف العالم ملابس الطفل الجميل ملقاة في مكان الاختفاء، وكانت عبارة عن شورت أحمر وقميص أحمر يشبه قمصان البحارة بكمة محفورة وياقة بيضاء أنيقة، وفسر ذلك على أنه “الانتقال الخماسي”.. وكان هم العالم الكبير يتركز في معرفة شيئين:
– مكان انتقال طفله باسل…
– التأكد من استمرار الاتصال أثناء الانتقال، فانقطاع الاتصال ولو لثواني معناه تعرض الطفل للجروح الخطيرة، أو ضياع جزء هام من جسمه!
– 5 –
* في منطقة جبلية نائية في البيرو، وعند الغروب، ومع لمعان برق خاطف في السماء، لاحظ المزارع الطيب ظهور طفل جميل عاري، وأصابه الذهول، وبدا الطفل كملاك سماوي من ملائكة الجنة، أو كهدية من السماء، ولم يصدق ما شاهده، فارتعب أول الأمر، ثم تبين له أن الموضوع حقيقي، فالطفل يبكي بفزع ظاهر، فالتقطه بحنان بالغ، وذهب به لزوجته.. فألبسته ملابس دافئة واسقته حليباً وهدأت من روعه.. “يا لكرم السماء.. لقد تمنيت أن أرزق بطفل طوال حياتي.. وكنت أصلي دائماً لتحقيق هذا الهدف.. وها هي السماء المباركة تمنحني طفلاً جميلاً كالملاك” وبكت زوجته من التأثر.. فالطفل جميل.. حنطي البشرة.. مشرق الوجه.. عذب الابتسامة.. يتمتع بعينين سوداويين ذكيتين.. وهو مرح كذلك.. يرقص عند سماعه الأنغام.. عاطفي.. وبدأ يزحف في أرجاء المنزل الريفي ويعبث في الأشياء.. ويبدو أنه في بداية حبوه وربما يزيد عمره عن العام قليلاً.. لم تصدق الزوجة هذه المنحة الربانية وعزتها لطيبتها وطيبة زوجها ولكثرة الصلاة والدعاء، وما أمتعها أكثر في هذا الطفل الجميل قوة شخصيته فهو عندما يريد شيئاً ما يحرك يده باتجاهه ويتحدث بلغة طفولية فيها تصميم نانا نانا نانا حيث لا يستطيع أحد أن يتجاهل طلبه!
– 6 –
*بعد جهود مضنية تدخل فيها البوليس الدولي (الانتربول) تمكن الأب العالم من معرفة مكان اختفاء ابنه، فذهب بنفسه إلى المزرعة الريفية النائية في البيرو، وعرف بنفسه مع وجود مترجم محلي، فرفض الزوجان بطريق “قصة الاختفاء” وأكدا أن الطفل هو ابنهما بالرغم من معرفة الطفل لأبيه واحتضانه له باسترخاء حيث بدا بالمسحور وهو يمص سبابة يده اليُسرى وينظر بسعادة غامرة، ثم اعترفا فيما بعد بأنه هبة السماء لهما، ولم يصدقا قصة “الانتقال الشعاعي” إلا عندما قام العالم بإرسال اللعبة المفضلة للطفل وهي عبارة عن “دب أبيض كبير” لنفس المكان.. وانبهرا عندما صرخ الطفل بفرح عندما شاهد لعبته المفضلة.. “نانا نانا..” وهجم عليها محتضناً إياها بغبطة طفولية ولاحظ العالم التأثر الشديد على زوجة المزارع، فتحدث مع زوجته وأخبرها برغبته في استئجار منزل ريفي لهما في المكان النائي على “جبال البيرو” وبجانب بيت المزارع البسيط.
– 7 –
*هكذا تعرفت زوجة العالم على زوجة المزارع، وقرر العالم وزوجته أن يقضياً شهراً من كل عام في هذه المنطقة وبصحبة المزارع البسيط وزوجته، واصطحبا “باسل” في زيارتهما السنوية، وأسعد هذا الحل الجميع.. وأصبح المزارع يتفاءل عند مشاهدته لوميض البرق عند الغروب، فهذا الوميض منحه وزوجته ذات يوم سعادة لا تقدر بثمن، وكذلك استفاد العالم من هذه التجربة فقد تذوق طعم البساطة والسعادة وتخلص ولو لشهر واحد من “ذكاء” الأجهزة وتماثل المخلوقات ونمطية الحياة الروتينية، وأبقى مكان تواجده سراً فهو لا يريد أن يزعجه أحد في عزلته الجميلة الهادئة… وسعادته كانت تتضاعف عندما يسمع “شامخ” وهو يلاعب حيوانات المزرعة “نانا نانا…”
مهند النابلسي / /mmman98@Hotmail.com
كاتب متخصص في الخيال العلمي
0 تعليق