*وهج الابداع الروائي الخلاق في “الوقائع الغريبة والحزينة لأرانديرا الطيبة وجدتها الشيطانية”/1972 لماركيز:
*كيف يعبر عنوان الرواية الطويل عن تفاصيل احداث الرواية تماما عكس توجه بعض الروائيين المقلدين للاختصار والغموض!
*عشرة مقتطفات مختارة دالة من “النهاية والذروة والبداية” كدروس كتابية لكيفية انجاز رواية قصيرة شيقة ومدهشة/من سلسلة كيف تكتب الرواية/5/ للكاتب الناقد مهند النابلسي/والسؤال هو لماذا اخترت المقتطفات بالعكس؟
*الواقعية السحرية الاخاذة تتجلى هنا في أبهى صورها الوصفية الدامجة للحياة و”أرانديرا” الجميلة المسحورة هي بطلة هذه الرواية/الصامتة …فهناك البيئة والجغرافيا والانسان والحيوان الداجن والاسطورة والغرائز والتقاليد والطقوس الدينية والجنس (البريء والفاحش) وعذابات الصحراء المرعبة… ثم خفايا “المزارع الصامتة المنعزلة” كما البحار وهيجان الأمواج وتكاليف العيش المرهقة وحزام السبائك الذهبية… وصولا للمسخ العنكبوتي والقدوم الوشيك لوطواط فضائي بأنفاس كبريتية مشتعلة وكريهة ستقلب نظام الكون رأسا على عقب…وانتهاء حتى مشاهد القتل والشجار والذبح (السينمائية) والطعن والدماء “الزرقاء” اللعينة المنبثقة والموت التراجيدي “الشيكسبيري” المأساوي المستحق للجدة الكاسرة المتنفذة المرعبة (التي تاجرت بجسد حفيدتها)…كيف يغوص ماركيز ببراعة وجاذبية في تفاصيل الحياة والأحداث “السينمائية” الفولوكلورية للبيئة اللاتينية المتنوعة/المختلطة الأعراق والأجناس… ثم يتعمق ببراعة في الوصف الواقعي/الخرافي بطريقة انسيابية تعج بالحياة والاطر الجمالية المعبرة في سخرية لاذعة تلقائية قل مثيلها؟!:
*لم تكن أرانديرا قد سمعته، كانت تجري ضد الريح. وطانت تجري بأسرع من غزال شارد. ولم يكن في استطاعة أي صوت من هذا العالم ان يوقفها. ومضت راكضة، دون ان تلتفت برأسها، في بخار مستنقعات ملح البارود، في انهدامات الطلق، في نعاس الأكواخ البحرية،حتى اللحظة التي وقف عندها البحر وبدأت الصحراء، ولكنها تابعت الجري بحزام السبائك الذهبية فيما وراء الريح الجافة والاماكن اللانهائية ولم يعد يعرف شيء عنها ابدا، ولم يعثر على أي أثر من مصيبتها.
**ولم تستطع أن تتابع، لأن “اوليس” نجح في افلات يده المسلحة، وارسل لها ضربة سكين ثانية في الورك، ثم وجه اليها ضربة ثالثة بلا رحمة، فلطخت وجهه دفقة دم منطلقة بضغط عال: كان دما زيتيا، لامعا، اخضر يشبه عسلا من اوراق التعنع.
***وكانت أنفاسها في حشرجتها الهائلة كمنفاخ تحتل المكان كله. ونجح اوليس في تحرير يده من جديد، ففتح شقا في بطنها، فغمره تفجر الدم بالأخضر حتى قدميه…وحاولت الجدة استدراك الهواء الذي بدأ ينقصها للحياة، ثم تهاوت على وجهها. وافلت اوليس بذراعيه المنهكين، ودون ان يرتاح لحظة واحدة، حمل الى الجسد العملاق ضربة الخلاص/الأخيرة.
****وهكذا تزوجت أرانديرا، في ساحة الدير، مجهزة بثوبها الخشن ووشاح من الدانتيلا قدمته لها المترهبات، دون ان تعرف حتى اسم الزوج الذي اشترته جدتها لها. واحتملت مستسلمة الى امل واه، الم الركبتين –مباشرة –على الأرض الملحية الرطبة، ورائحة جلد التيوس الفظيعة لمئتي عروس من ذوات البطون المنتفخة، وعقاب سماع رسالة القديس بطرس الموقعة باللاتينية تحت حمارة القيظ، لن المبشرين لم يجدوا حلا لمواجهة الزواج المزيف المفاجىء، ووعدوها فحسب بمحاولة جهد اخير للاحتفاظ بها في الدير، ومع ذلك/ ففي نهاية الحفل، بحضور الرسول البابوي، والحاكم العسكري الذي كان يطلق النار على السحاب، والزوج الجديد، والجدة الهادئة الأعصاب، وجدت أرانديرا نفسها –من جديد- خاضعة للسحر الذي تلبسها منذ ولادتها، فعندما شئلت فيما اذا كانت هذه ارادتها الحقيقية، الحرة، النهائية، لم يكن لديها أدنى تردد، وهي تقول: -اريد ان أذهب. وأفصحت وهي تشير الى الزوج: -ولكن ليس معه، بل مع جدتي!
*****كانت المزرعة صامتة، منعزلة، وكان المنزل الخشبي بسقفه المصنوع من التوتياء، سياج من النحاس على الشبابيك، وشرفة كبيرة اقيمت على دعائم، حيث كانت تكثر نباتات بدائية ذات ازهار قوية الرائحة. وكانت والدة اوليس على الشرفة، مسترخية في كرسيها “الفييني” الخاص، قد الصقت على صدغيها أوراقا مدخنة لتخفف من ألم الرأس، ونظرتها، كهندية صافية، تتابع حركات ولدها مثل حزمة ضوئية غير مرئية حتى الأماكن المحجوبة من البيارة، وكانت رائعة الجمال، وأصغر سنا من زوجها بكثير، ولم تحافظ على ثياب القبيلة فحسب، ولكنها كانت تعرف أقدم الأسرار عن عرقها.
******…وكانت قد رات الجحيم الأرضي لأفران الخبز والغسيل…ثم رات راهبة تطارد، عبر الساحة، خنزيرا، ثم تنزلق مع طريحها وهي متشبثة بأذنيه، ثم تتدحرج في حفرة موحلة دون ان تفلته، الى أن تداركتها اثنتان من المترهبنات بصداريتهما الجلدتين، وساعدتاها على ضبطه، وقامت واحدة منهما بذبح الحيوان بسكين جزار، بينما كان الدم والوحل يلطخانهن جميعا. وكانت قد رأت في الجناح المعزول من المستشفى الراهبات المصدورات يلبسن ثياب الموت، ينتظرن قضاء الله فيهن، وهن يطرزن اغطيةة الأسرة الزوجية على السطح، بينما كان رجال الارسالية يبشرون، عبثا، في الصحراء!
*******كانت آرانديرا تعيش في الظل، تكتشف أشكالا من الجمال والرعب، لم تكن تتخيلها ابدا في عالمها الضيق على سرير الغرام، ولكن لم تسنطع، لا المترهبنات الأكثر قسوة ولا الأكثر تفهما، أن ينتزعن منها كلمة واحدة منذ ادخالها الى الدير…ثم في وسط القاعة، رات آرانديرا راهبة رائعة الجمال، مجهولة، تعزف على قيثارة موشحة دينية خاصة بعيد الفصح.أصغت ىرانديرا الى الموسيقى دون ان يرف لها جفن، وروحها في حالة توازن عجيب، ثم قالت:-اني سعيدة!
********وبين آخر اشخاص الاحتفال مر فتى، ذو قلب بريء، وشعر هندي محلوق فكان رأسه قرعة فارغة، وكانت ثيابه رثة، يحمل بيديه شمعة فصحية طويلة، مزينة بعقدة من الحرير…وكان يجد صعوبة في اغلاق فمه بسبب أسنانه التي تشبه جحش صغير. ثم اخرجت الجدة من جيبها الداخلي رزمة من الأوراق النقدية، ثم نظر اليها الفتى ذاهلا: – سأدفع لك عشرين بيزوسز لا لتقوم بأول تناول قربان، ولكن لتتزوج بحفيدتي!
*********كان هذا الملجأ الغريب قد بني من قبل زوج الجدة، وهو مهرب اسطوري، يدعى أماديس، وكان لها منه ولد انتحل الاسم ذاته، وهو والد آرانديرا. وليس هناك من احد يعرف اصول هذه الاسرة او دوافعها. والرواية الشائعة على السنة الهنود تقول ان أماديس، الأب، كان قد انتزع زوجته الجميلة من ماخور، في جزر الأنتيل، بعد ان طعن رجلا بالخنجر، وحملها لتعيش، والى الأبد، في الصحراء بمنأى عن العقاب…وعندما مات اماديس وابنه،احدهما من حمى سوداوية، والآخر مثقبا برصاصات خلال شجار مع خصومه، قامت الزوجة بدفن الجثتثن في صحن الدار، ثم سرحت الأربع عشر خادمة، ذوات الأقدام العارية، ومضت تغذي أحلامها بالمجد، في ظل البيت المفعم بالأسرار، بفضل تضحيات حفيدتها، هذه الهجينة التي قامت على تربيتها منذ ولادتها.
**********كانت الجدة،الضخمة/العارية، تشبه حوتا جميلا أبيض في الحوض الرخامي، وكانت الفتاة الصغيرة التي بلغت الرابعة عشرة الى عهد قريب،فاترة ،ذات أعضاء لينة، خاضعة بالقياس الى عمرها،وكانت تسكب على الجدة،بايقاع كأنها تقوم بطقس مقدس،ماء غليت فيه اعشاب منقية للدم،واوراق معطرة بقيت لاصقة على الكتفين الطريين،والشعر المعدني الأشعث،والظهر القوي الموشوم،بلا رحمة، كظهور البحارة الساخرة بلا حدود.
ترجمة د.محمود موعد/دار ابن رشد للطباعة والنشر/الطبعة الاولى 1981/67 صفحة من القطع الصغير/
عرض وتلخيص وتقديم الناقد مهند النابلسي
0 تعليق