الهروب إلى الذات / قراءة في رواية كافكا على الشاطئ لهاروكي موراكامي

بواسطة | 18 أكتوبر 2017 | قراءات | 4 تعليقات

“لقد غدوت جزءا من عالم جديد تماما” هكذا تنتهي حكاية كافكا. نهاية مفتوحة تجعل القرّاء يخمنون شتّى الإحتمالات والطرق التى سيواجه بها الفتى كرو الحياة أو العالم، إنه العالم الجديد الذي عاد إليه بعد سفر بل بعد هروب إلى عمقه.
كافكا على الشاطئ لهاروكي موراكامي، رواية يابانية دارت أحداثها في مدن يابانية بشخصيات ملامحها يابانية، نظامها ياباني بتأثيرات خارجية جمعت بين رؤى كافكا الحقيقي وإنسيابية الموسيقى الكلاسيكية وتأويلات دان براون وتفسيرات رموزه وسحر الشرق بحكايا ألف ليلة وليلة. أبطالها شخصيات عجيبة مدهشة رغم مساوئها وجميلة بالرّغم من بعض النتوءات التى تحملها لكنها لا تشوهها. فقد نجح هاروكي موراكامي في نحتها خاصة من الناحية النفسية والجسدية. الفتى كرو غادر منزله هربا من الجمود الذّي يلف علاقاته بمحيطه، ومن اللعنة التى توعده بها والده. فرّ حاملا كمّا من الهواجس و الأفكار في خضمّها يبحث عن نفسه بل عن ذاته متسائلا من أنا؟ في كل فكرة يمرّ بها. إبن الخمس عشرة سنة يغادر نحو المجهول يمرّ بأحداث ضاعفت من تفكيره وهدوئه وتأمله ومن ثمة بدأ يعي بذاته وبالآخر فيغوص في أعماقه لدرجة تقبّله مغادرة هذا العالم نحو حياة يكون فيها هو بذاته الحقيقية. والآخر الذي لا يتغيّر. خرج مجرد فتى وعاد كافكا الذي يحمل من الحكمة ما يمكنه مواجهة العالم الجديد بأسره إنه “عالم المجاز”. بالتوازي هناك الشيخ ناكاتا ذلك الشيخ الذي تبدأ حكايته إبان الحرب العالمية الثانية والغزو الأمريكي لليابان والتى تستمر لزمن. ناكاتا عجوز لطيف يمتلك موهبة خارقة و هي التحدث مع القطط، تفكيره بطيء وفهمه أيضا رغم ذلك فهو يعي جيّدا أنه يفتقد لذاته الأصلية التى خسرها في حادثة غامضة وأنه مجرد نصف ظل، فغادر هربا أيضا من أجل إستعادة ذاته الضائعة. هروب أكثر منه رحلة بحث تختلف فيها أسقف إحتمالات العودة من اللاعودة لكل واحد منهما، إنه هروب عميق إلى الذات.
بطلان يدخل كل منهما مغامرة على حدة بأحداث متوازية و رغم الإنفصال الجليّ بينهما لكن هناك خيط رفيع يجمعهما. فتحركاتهما ليست محض صدف بل مقدّرة و مدبّرة فلا يصير حدث مع أحدهما إلا و قد كان الأخر قد تبعه أو سبقه. كأنهما وجهان لعملة واحدة إسمها الحياة، جسد و ذات لإنسان واحد. فيحدث ذلك التوازي و التكامل الذي أضفى على الحبكة الروائية جمالية الغموض و التشويق بما تحملها طياتها من أحاجي لا تتبعها حلول بل تترك القارئ يفعل ذلك كأن ناكاتا وُجد من أجل أن يصل كافكا للحقيقة و يعود لمواجهة العالم بذات كاملة. دون أن ننسى دور تلك الشخصيات المساعدة التى كانت فعالة في اجتياز الأبطال اختباراتهم بل أقدارهم كهوشينو و أوشيما و ساكورا و ساييكي. كلهم كانوا مسخّرين لخدمة الأبطال بطريقة ما. بإختصار رواية أبطالها خاضت معارك شخصية مصيرية و نالت شرف الشجاعة و المحاولة و المواجهة دون ملل أو خوف من الفشل. شخوص تعيش أدوارها بمهارة في حين يبدو الكاتب منقادا لها عاجزا عن التنبؤ بأفعالها وأقوالها. فكان الكاتب المشاهد و المتأمل لما يحدث على مسرح روايته و كل ما فعله أنه ترك الأقدار تتدخل كل مرة و تضع بصمتها لتتركنا نترقب الحدث التالي و نحن نفكر في فك أحجية ما حدث.
في جو غرائبي فلسفي ميتافيزيقي دارت أحداث الرواية عابرة عدة جسور فكرية. سريالية عجيبة اختلط فيها الواقع و الخيال، المنطق واللا منطق، الموجود والمنشود، احتفظ فيها عامل التشويق بنسقه المتصاعد مع تواتر الأحداث. تقاطع حكايات البحث عن نصف الظل والهرب من لعنة أوديب وفيما بينهما من رموز وأشباح وتهيؤات وتأملات جعلت الكاتب يشرك  القارئ فيها لتبدأ رحلة البحث داخل وخارج الرواية من أجل إيجاد الذات والاجابة عن سؤال من أنا؟ في تواتر بين الواقع والخيال، بين الحياة والموت، بين الفكر والعبث الممكن مما أخرج الرواية في شكل مزيج من التاريخ والفلسفة والحضارة وعلم النفس والفلسفة والأساطير وشعبيات يابانية مع الحفاظ على اللمسة السردية اليابانية كانعكاس لشساعة ثقافة الكاتب و نضجه الروحي و حسن إطلاعه. غدت محاضرة مفتوحة للدرس و التعلم دافعة للتفكير و التأمل بفضل حرفية الكاتب و قدرته على تناول المواضيع بمداخل فكرية دون إضاعة النفس السردي.
رفض كافكا المواجهة فهرب من مدينته و من والده ومدرسته ومن كل ما يمثل له الأخر، اعتبر الآخر جحيمه المطلق الذي لاينتهي. وحين هرب لم يخطر بباله أنه سيواجه ذاته عاريا من كل تبريرات بمساعدة الأخر. كذلك ناكاتا الذي لم يرضى بنصف حل فهرب متتبعا حجر المحور ليصحح الحقائق بمساعدة من الآخر لم يعد عائقا كما في بداية الرواية.
هذا المسار الفلسفي بقدر ماهو مستعص كأفكار استطاع الكاتب إيصالها من خلال أحداث مبسطة تضمنت إعترافا بمحدودية قدرة الإنسان وعجزه عن الوصول لحقيقة ثابتة ولا حتمية مستقرة دوما. بل كل ما يحرك الإنسان هو قطبان من الثنائيات كالوعي واللاوعي، الحتمية والنسبية، الحرية والعبودية، الفهم والسطحية. ثنائيات تجسدت في  في أحداث صغيرة متسلسلة مقدرة ومحسومة وجهت مصير الشخصيات الى أقدارها المكتوبة. فكان أن أصابت كافكا لعنة أوديب، فهرب إلى العبثية واللامعنى، إلى الصمت والبعد عن تعقيدات العالم مستسلما للموت لولا والدته التى ضخت دماء الحياة في عروقه. وأنهى ناكاتا مهمة نصف ظلة و مات بعدما أوكل بباقي المهمة لشخص بعده.
أن تعرف من أنت لا يعني أبدا أن تستسلم لأنك مختلف عن باقي الناس بل يجب أن تعود لمواجهة كل الظروف وممارسة الحياة في عالم مجازي دون أن تضيع ذاتك بل تقوم بتوكيدها بكل دقة و هكذا يولد العظماء. بطريقة تصويرية اكتملت الأحداث وتقبل الكل الأقدار فلا خوف ولاضياع بل مزيد من السرد و الانسياب بنهايات مفتوحة تشجع على التأمل و الإقبال على البحث دون خوف أو وجل من أوجه الحقيقة الكثيرة.

 

عواطف محجوب

4 التعليقات

  1. م.عادل الحاج حسن

    قرأت (تأثير النخب) و (زوربا يراقص المعاني)،
    وقد أثارا في نفسي إعجابا شديدا. وأنا أدخل موقع السنابل اليوم، طالعني عنوان (كافكا
    على الشاطيء…) قلت هذه عواطف لا ريب ! انتقلت سريعا الى آخر المقال فكان حدسي في
    مكانه. ما أنضج هذه الكتابة وأعقلها ؟ أنت قارئة يقظة وناقدة موهوبة، تلاحقين
    المعاني بشكل مبتكر ومذهل يقطع النفسا.” ناكاتا عجوز لطيف يملك موهبة خارقة
    في التحدّث مع القطط ،” وعواطف محجوب سيدة لطيفة تملك موهبة خارقة في التحدث مع
    الكتب وعنها.

    الرد
  2. إبراهيم يوسف

    الأستاذة والصديقة الكريمة عواطف محجوب

    لا تتعبي نفسك كثيرا يا صديقتي؛ كما فعل الكاتب..؟ فالذكريات والبحث عن الحب والحياة والموت، رحلة ستبقى مفتوحة إلى الأبد على كل الاحتمالات؛ والتيه في السماء أو على الأرض؛ واحد من الاحتمالات المقلقة المفتوحة. وليس ما يجنيه بنو البشر في مسيرتهم والعبور إلى العالم الآخر، إلاَّ لحظات قصيرة من الحب يتعالى فيها وجيب القلوب، ثم تتوقف عن الخفقان وينتهي الأمر إلى الأبد.

    خالص مودتي واحترامي وتقديري.

    الرد
  3. مهند النابلسي

    عظيم الامتنان لبراعة الكاتبة الفذة بالتحليل العميق الموجز “الشامل” وهذه موهبة فريدة بالحق …ولكن الرواية بالمجمل لم تعجبني اطلاقا فهي خليط من الواقع والهلوسات اليابانية الغربية التي تسلط الأضواء على ضياع الانسان الياباني العصري المستلب فكريا وثقافيا من قبل الثقافة الغربية المهيمنة حيث تفتقد الرواية بمجملها للبصمة اليابانية الأصيلة الآخاذة ويبددو الكاتب الطموح وكأن عينه على “نوبل” وان كان اسلوب السرد مشوقا وغامضا ويستحق التنويه…

    الرد
  4. عواطف محجوب

    رغم ذلك مدهشة عوالم سرد هاروكي موراكامي فهو من صناع الغريب العجيب الغير عادي وهو ما فتنني. تحياتي استاذ وشكرا لانك ذكرتني بهذا المقال. شكرا لكل الاساتذة الذين تفاعلوا مع ما اكتب

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.