النادلة
وموت رومنسي!
عبد الجليل لعميري – المغرب
يسميها صديقي، ضاحكا، بالمناضلة، ويجزم بأنها كذلك بالدليل القاطع: “من تجرؤ على المشي في غابة من الذكور الجائعة؟! “فعلا هي وسط غابة من الذكور تربوا على تقاليد البلدة الصغيرة، وندرة النساء في المقاهي، وصورة نمطية للمرأة “العورة”.
في بداية عملها بالمقهى كانت تنهي يومها منهكة، وحين تستسلم للنوم تهاجمها عيون وقحة حمراء وزرقاء وصفراء. .. وأيدي متسخة تحاول نزع ملابسها عنها. تقاوم بيديها الهجوم وتحمي جسدها، وحين تحس بانهيار دفاعها تصرخ، لتجد أمها قريبة منها تمسح عرقها.
تكرر الكابوس كثيرا وتنقلت هي من مقهى إلى مقهى بحثا عن وضعية أفضل. لكن العيون والأيدي القذرة ظلت تطاردها. … وفي آخر محطة لها بهذا المقهى بدأت تتأقلم مع الغابة. .. لأنها قضت مدة أطول فقد شرعت في التعرف على نوعيات الزبائن، وعقلياتهم ومستواهم التعليمي والإجتماعي. بدأت تفهم نفسياتهم وسلوكياتهم. …
رواد مقهى القصبة مخلصون، ومعظمهم لهم أوقاتهم الخاصة، فهناك أصحاب الصباح، وهناك أصحاب الزوال أو المساء. .. وضمنهم أستاذها الذي درّسها بالثانوية. في البداية كانت تخجل منه لأنها تتذكر قولته: النجاح في الدراسة يحميكم من غسل أواني المقاهي. لكنها لاحظت أنه يعاملها باحترام و يجزي لها البقشيش، بعيدا عن تحرشات البعض…
كانت تراه دائما مشغولا بقراءة كتاب أو بالكتابة على الحاسوب. وسألت نفسها: ماذا تفيد الأستاذ هذه القراءة وهو حاصل على عمل جيد؟ وفي ذلك الصباح البارد فاجأها بسؤاله: لماذا لا تجتازين امتحان الباك حرّ؟
ارتبكت وتحججت بأعذار الوالدة المريضة والأب المتوفى والأخت القاسية. شجّعها ووعدها بأن يساعدها إلا إذا كانت تفكر في الزواج؟ أجابته بحزن: “ومن يتزوج نادلة بمقهى تنهشها عيون الغرباء صباح مساء؟”.
مرت سنوات، هي الآن ترتشف قهوة الصباح في طريقها إلى مقر عملها، وتتذكر وجه ذلك الأستاذ الطيب الذي ساعدها على نيل الباك، مما ساعدها على متابعة دراستها الجامعية والحصول على عمل: مدرسة فلسفة منذ سنة، وقد وعدت نفسها أن تبحث عن أستاذها لزيارته وشكره.
موت رومنسي!
في “قبالة البحر” كان يجلس متخذا لنفسه موقعا مطلا على منظر أزرق ممتد. رواد المكان يثرثرون في همومهم الخاصة، يتسرب بعضها إلى سمعه كلما ارتفعت أصواتهم. يرشف من قهوته السوداء ويتأمل اللوحة الزرقاء المشرعة أبوابها أمامه… رقصة الموج وهو يلمع تحت أشعة شمس يوليوز حياة نابضة بالجمال، رغم اختباء وجوه البؤس في دروب هذه المدينة، التي تغزوها البداوة من كل الاتجاهات.
يقرأ اليوم كتابا عن تقنيات الكتابة وخصوصا كتابة الرواية. هو منشغل بكتابة رواية يحكي فيها عن بلدته: تاريخها، جنونها، بؤسها وثرواتها، عن كل شيء يخص هذه البلدة القديمة الغشيمة، فكيف سينجح في ذلك؟ أليست الرواية إبنة المدينة!؟ فهل يمكن أن تكون هذه القرية الغارقة في التهميش موضوعا مناسبا لروايته؟!
أليس في أهلها كل ألوان السلوكيات البشرية وفي أعلى درجاتها؟ المحتالون والنصابون والانتهازيون من أهل بلدته يستحقون أن يكونوا أبطالا، أو شخصيات على الأقل مهمة في هذه الرواية لكشف الوجه القبيح للفساد. ومن أهل بلدته: الطيبون والمخلصون والملتزمون، الذين يستحقون رسم الوجه الإيجابي للحياة. …
يرشف من قهوته الطليان، ويدخن سيجارة أمريكية. الغرب يفرض نفسه عليك في حياتك اليومية، بل حتى في جلوسك بمقهى للتمتع برؤية البحر الأطلسي في لحظة استجمام مهربة. لا يساير إيقاع المصطافين والمصطافات، فهو عازف عن السباحة ويكتفي بسباحة ذهنية. يتمتع بالمشهد ويتذكر ما قاله الكوتش في فيلم “المؤلف” الاسباني: إسمع، أنظر، عش…ثم أكتب.
لمن سيكتب؟ فهؤلاء قوم غرقوا في المتعة المادية، والشعب لا يقرأ. أمة إقرأ لا تقرأ. على الشاطئ مكتبة سمّت نفسها: شاطئية، تعرض كتبا للقراءة وتنظم لقاءات ثقافية. الفكرة جميلة، لكن أين هو القارئ؟! ولماذا نفس الضيوف ونفس الوجوه؟!.
يحس بعطش فظيع، يشرب من كأس الماء أمامه، لكن العطش يزداد. يحس بعرق يتصبب منه، وببرودة غريبة. يتنفس بصعوبة، يلقي بجسده المتعب إلى الوراء، يتنفس بصعوبة، ويسلم جسده لظهر الكرسي. …
يمر وقت طويل، تغطي أسدال الليل الوجه الأزرق للبحر، ينسحب رواد مقهى قبالة البحر، ويظل النادل العجوز ينتظر خروجه، لكن بدون جدوى. يقترب منه ويطلب الحساب.
الرجل الجاثم أمام النادل لا يستجيب، يقترب منه أكثر: أسيدي سنغلق المقهى. ..لا جواب، يقترب أكثر وينظر إلى الرجل المسجى فوق الكرسي، يستشعر خطرا، ينادي على زميله الآخر: هذا في غيبوبة! يحضر زميله الآخر ويكتشفان أن الزبون قد مات، وأمامه ورقة كتب عليها: مشروع قصة تحت عنوان “قبالة البحر: ولادة جديدة.!”
“لمن سيكتب؟ فهؤلاء قوم غرقوا في المتعة المادية، والشعب لا يقرأ. أمة إقرأ لا تقرأ.”
القراءة في اعتقادي ليست بعدد الكتب أو المقالات المقروءة
بل بدرجة الوعي….والولوج إلى أعماق الكلمة
والإنصات إليها بكل الحواس، والانفتاح على الأفكار الجديدة.
أما عنوان مشروع قصته: قبالة البحر ولادة جديدة..
فيختصر الكثير.
خالص مودتي واحترامي.
الاخت الكريمة شكرا على المرور الطيب …غصة اللاقر اءة حضرت في كتابتي كثيرا. القراءات المنتجة والوظيفية والتفاعلية والواعية طبعا.
روعة سردية شيقة وتحفل بالمغزى وخاصة فيما يتعلق بموضوع القراءة واللامبالاة العامة تجاهها لذا فالأعداء ينتصرون دوما علينا كعرب لانا لا نقرأ ولا نتعظ ولا ناخذ العبر وكفى!
د.رامي ..محبتي وتقديري واعتزازي بتشجيعك. …أعطابنا كثيرة لعل أساسها -كماقلت- القراءة بجميع معانيها ومستوياتها. ..