بمناسبة اليوم العالمي للشعر في 21 آذار
اللّغة والرّؤى والتّأثير مراتب الشّعراء ومدارجهم*
فراس حج محمد/ فلسطين
كثيرون هؤلاء الّذين يكتبون الشّعر ويصرّون على كتابته، ولكنّهم لم يكونوا في أيّ حال من الأحوال شعراء حقيقيّين، ولن يكونوا، ما داموا يسيرون على النّمط نفسه ويدورون في فلك حلقة ضيّقة مغلقة، عرف العالم كتبة شعر لا يُحصى لهم عدد، وبقي الشّاعر نادراً ندرة الشّعر، فمن هو ذلك الشّاعر الحقيقيّ؟
لعلّ أهمّ ما يميّز الشّاعر هو لغته الخاصّة والتّعابير المدهشة الّتي تترك بصمة في اللّغة العامّة، وتحمل تجربة غير مكرّرة، وليست مأسورة بصوت الآخرين ولغتهم. وُجد ذلك مثلاً في لغة امرئ القيس في العصر الجاهليّ، وفي لغة الأخطل وجرير والفرزدق في العصر الأمويّ، والمتنبّي والمعريّ في العصر العبّاسيّ، وفي لغة أحمد مطر ومظفّر النّوّاب ودرويش وأدونيس في العصر الحديث، وربّما استطاع كثير من الشّعراء فعل ذلك فكان لهم صوتهم الممتاز والمميّز، وهذه المرتبة من شاعريّة اللّغة أوّل مراتب الشّاعر الحقيقيّ، ويستطيع الشّاعر بلوغها بشيء من الاجتهاد والمدارسة والتّأمّل والقراءات الواعية، وهضم كلّ التّجارب الشّعريّة السّابقة، والتّعمّق في المدوّنات التّاريخيّة والفكريّة والفلسفيّة الّتي تمنح الشّاعر بعداً لغويّاً خاصّاً، له امتداداته المعرفيّة المفتوحة على آفاق وعوالم رحيبة.
لقد كان المعوّل دوماً على الألفاظ في العمل الأدبيّ والشّعر خاصّة، قال ذلك الجاحظ قديماً في مقولته المشهورة “المعاني مطروحة في الطّريق يعرفها العربيّ والعجميّ، والحضريّ والبدويّ، والقرويّ والمدنيّ، وإنّما الشّأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللّفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحّة الطّبع، وجودة السّبك، فإنّما الشّعر صناعة وضرب من النّسج، وجنس من التّصوير”، وأعاد المعنى الشّاعر الفرنسيّ (مالارميه) بقوله: “إنّ الشّعر لا يصنع من الأفكار، ولكنّه يصنع من الألفاظ”، وللقولين السّابقين دلالة كبرى في صناعة الشّعر الّتي تركّز على الألفاظ الخاصّة وطريقة صياغتها؛ لتميّز شاعراً عن شاعر، وتميّز الشّعر عن غيره من الكلام. وفي حوار للرّوائيّ لورنس داريل يعرّج على الشّعر ولغته قائلاً: “الشّاعر من بين الجميع من يعي حدود اللّغة وعجزها. فهو ملزم إذاً بتحريفها عن الاستخدام العاديّ موسّعاً بها الحدود”.
وبعد أن يكون الشّاعر قد امتلك أهمّ ما يؤهّله ليكون شاعراً، وهو اللّغة، عليه أن يعيش الشّعر، وأن تكون قصيدته أهمّ شيء لديه، “أهمّ من زوجته وأولاده والوطن”، و”أن يُفني عمره في خدمة القصيدة”، كما قال سميح القاسم. وليس أن يكتبه فقط كهواية من الهوايات، وهذا نادر، قد لا يتحقّق مع إمكانيّة تحقّق النّقطة الأولى عند كثير من الشّعراء، وهذا يستدعي أمراً بالغ الأهميّة، أوضّحه فيما يأتي:
لا شكّ في أنّ الشّاعر حتّى يسمّى شاعراً ويفوز بهذا اللّقب الكبير بحدّ ذاته، لا بدّ من أن يكون ذا مشروع إبداعيّ شعريّ يُخْلِص له ما دام قادراً على الكتابة، يضيف من خلاله إلى معمار الشّعر لبنات جديدة، فقد استطاع مثلاً الشّعراء الصّوفيّون، وخاصّة الحلّاج وابن عربيّ أن يقدّموا إضافات نوعيّة للمدوّنة الشّعريّة العربيّة والعالميّة، ويندمجوا في روح الإبداع الإنسانيّ الّذي تجاوز المحليّ والذّاتيّ إلى المطلق، وأصبحوا مدارس شعريّة ولغويّة ورؤيويّة لمن جاء بعدهم، فقد أتعبوا، وأقلقوا كلّ شاعر يريد أن يكتب شعراً صوفيّاً، وفي هذا المقام أيضا أذكّر بشعراء الغزل العذريّ، وشعراء الموشّحات، وشعراء التّربادور وشعراء الأيروس واللّذّة الحسّيّة أو شعراء النّزعة المادّيّة أو الواقعيّة أو شعراء المسرح العربيّ أو العالميّ وشعراء العاميّة كصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم، على ما بينهما من اختلاف ضروريّ لاختلاف الرّؤى والمشروع الشّعريّ، وعند هذه المرتبة يتقلّص عدد الشّعراء أكثر، ليصبح الشّاعر علماً على مدرسته الشّعريّة وأسلوبه وعوالمه الإبداعيّة الّتي يبنيها بإخلاص ووفاء بمنجز شعريّ مدروس غير عشوائيّ.
تانك النّقطتان السّالفتا الذّكر لا بدّ من أن يُحدِثا أثراً في المتلقّي، ويجعلانه يفكّر في الشّعر الّذي قرأه، وينقله من حال إلى حال، وهذه أصعب مراتب الشّاعريّة، وقد لا يستطيعها غير قلائل في تاريخ الشّعر العربيّ والإنسانيّ كلّه، فعندما سئل درويش “كيف تلمّست القدرة على أن تكون شاعراً”. أجاب: “لست متيقّناً حتّى الآن بأنّني حقّقت طموحي”. ويستطرد درويش في توضيح ذلك بقوله: “لكي أكون شاعراً بالمعنى الأعمق للكلمة لا يعني مجرّد كتابة الشّعر، بل أن يكون شعريّ مؤثّراً في الواقع، لا مجرّد أغنيات أو قصائد يقرؤها بعض الطّلّاب وينتهي مفعولها. ما زلتُ مقتنعاً بأنّ للشّعر فاعليّة لم يحقّقها بعد”. وهذه رغبة يتمنّاها كلّ مبدع، ليس الشاعر وحده، ففي لقاء مع الروائي اللّبنانيّ إلياس خوري قال: “أنا طموحي أكتب صفحة في هذا النّصّ الأدبي. إذا بيطلعنا صفحة في هذا النّصّ الأدبي الكبير بنكون أبطال”.
إذاً درويش وصل إلى حقيقة الشّاعر الّذي يطمح أن يغيّر في الواقع، ولعلّه استطاع ذلك، ولو جماليّاً، وساهم في تحسين الذّائقة اللّغويّة لدى القارئ، وفي تشكيل وعيه الثّقافيّ بدرجة ما، كما فعل ذلك من قبلُ نزار قبّاني في قصائده عن المرأة، أو عمر بن أبي ربيعة في خلخلة النّموذج الشّعريّ في وجدان المتلقّي العربيّ، وما أحدثه أبو نُوَاس وأبو تمّام، وهذا ربّما ما يلاحظه القارئ عندما يدرك أثر قصيدة “الأرض اليباب” للشّاعر الإنجليزيّ (ت. س. إليوت)، وما أحدثته نازك الملائكة وبدر شاكر السّيّاب في خلخلة النّموذج الشّعريّ مرّة ثالثة بعد الموشّحات، وبعد ما أحدثه انقلاب أبي نُوَاس على نمط القصيدة العربيّة التّقليديّة، وأخيراً ما حدث من تطوّر في الكتابة الشّعريّة من قصائد (الهايكو) العربيّة، واستقرار قصيدة النّثر الّتي يرجع الفضل في تبنّيها وتسويقها والدّفاع عنها كتابة وتنظيراً في الشّعريّة العربيّة المعاصرة إلى الشّاعر أنسي الحاج، وما أحدثته من جدل امتدّ حتّى السّياسة في حينه، وهذا بطبيعة الحال يجعل الشّاعر مفكّراً، جدليّا، يأخذ الآخرين نحو مناطق شائكة يخافون السّير في أراضيها، فإنْ أفلح في استدراجهم فإنّه سيكون قد حقّق جزءاً من رؤاه ومبتغاه.
هذه النّماذج الّتي ذكرتها آنفاً لم يكن تأثيرها جماليّاً وحسب، بل امتدّ لتتمّ مناقشة أمور غير إبداعيّة/ شعريّة أو ثقافيّة، وتعدّتها إلى بؤر معرفيّة أبعد، ومسّت المعتقدات الدّينيّة والأفكار الكبرى الجمعيّة أو هكذا فكّر فيها البعض، ولذلك يستحقّ هؤلاء لقب “الشّاعر”، وليس مجرّد كتبة شعر جميل، لا يتجاوز أثره لحظة قراءته، فلا بدّ من أن يعيش الشّعر في الوجدان والعقل ليُحدث ذلك التّأثير المطلوب، وهذا يجب أن يكون مطمح الشّاعر، وهو ما يدفعه حسب رأي درويش إلى “التّطوّر وإلى البحث عن أشكال وفعاليات جماليّة جديدة” صادمة ومؤثّرة.
0 تعليق