لى فترة قصيرة سابقة كان الكاتب يتصور – أو يتوهم سيان- بأنه بإمكانه تغيير العالم ، و لذا كان الأديب مثلا و هو ينشر مقالة او قصة أو قصيدة يرى في قرارة نفسه بأن نصه قد وصل إلى القارئ و أنه تفاعل معه و أنه سينفذ مضمونه في الواقع عمليا.و لم يكن يدور ببال كاتبنا (الخنذيذ ) بأن نصه ربما لم يقرأه أحد ، فهو لا يدور بباله ذلك لأنه لا يستسيغه و لا يطيقه.
السؤال الذي أريد طرحه هو:
ـ لماذا يريد الكاتب تغيير الواقع؟ و ما هي مصلحته في ذلك؟
الواقع أن هذه الفكرة التي تقول بتغيير العالم نبعت من التفكير الماركسي، وهي أتت في سياق تاريخي واجتماعي معين ، و كان لها من البريق و اللمعان ما جعلها تحظى بالتفاف حشد كبير من الكتاب والأدباء حولها إلى درجة أن كاتبا أو أديبا مبتدئا كان يكتب حتى ولو كان ما يكتبه خربشة و يتوهم أنه بمجرد ما سينشر ما كتبه سيكون العالم كله آذانا صاغية له ، و أن السواعد ستشمر من أجل تنفيذ أفكاره فعليا في الواقع المعاش،بينما في الواقع كان ما ينشره لا يتعداه هو في القراءة و بعض الأصدقاء حتى لنكاد نقول بأن لا أحد كان يقرؤه ويصغي له إلا هو يقرأ لنفسه و يصغي إليها . ولا شك أن الإيمان بهذه الفكرة ـ فكرة تغيير العالم من طرف الكاتب ـ كان لها مفعول السحر ،حتى كنا نرى بعض المراهقين و المراهقات يتبنون الخطاب اليساري في أحاديثهم و يبثون في نصوصهم “الروح الثورية”وكانت المنابر الإعلامية اليسارية تستقبل كتاباتهم و تنشرها في ملاحقها الثقافية و صفحاتها الأدبية ،كل ذلك من أجل تعزيز جبهتها الدفاعية في مواجهة اليمين “المتغول”و مناهضة الخطاب الرجعي الذي لم يعد رديئا فقط كما يرونه بل صار هو الرداءة نفسها. والمطلعون على الأمور و العارفون بالأدب و أصوله لا ريب أنهم رأوا في هذه المرحلة كيف صار الأدب و الكتابة عموما والإسفاف الذي نزل إلى مستواه الخطاب الأدبي بوصفه ذاك الكلام الجميل الباعث على الإحساس بالجمال و التفطن إلى أين تكمن مواطنه. ففي هذه المرحلة صار الشعر تقريريا و أصبحت القصة القصيرة و الرواية عبارة عن مناشير سياسية تروج لأيديولوجيات معينة هي أيديولوجيات الأحزاب اليسارية صاحبات المنابر الإعلامية الورقية التي تنشر فيها تلك الكتابات ، وكم كان يحز في النفس و يبعث على الأسى أن تجد شخصا لا هو في عير الشعر ـ مثلا ـ ولا هو في نفيره ، ومع ذلك عندما كانت تصل خربشته إلى هيأة تحرير الجريدة يقومون بتصحيح أخطائها اللغوية و الإملائية و يضيفون إليها و ينقصون ليخرجوها إلى جمهور القراء على أساس أنها للشاعر المناضل فلان المدافع العنيد عن الطبقة الكادحة و المنشغل بهموم الناس الاجتماعية. مع أن هذا الفلان لا يعرف حتى ما معنى الشعر و لا حتى معنى أن يكون شاعرا ، فهو كالأعزل الذي يدخل ساحة الوغى ويريد أن يخرج منها منتصرا.
إن الكاتب الذي يسعى إلى التغيير بدون الأدوات اللازمة لهذا التغيير هو كاتب طوباوي شعبوي ، وهو ليس كاتبا نموذجيا كما نستنبط ذلك من الكتابات اليسارية نفسها ،
فغرامشي وهو نموذج المثقف اليساري كان يعطي الاعتبار للكاتب بوصفه خالقا للمعرفة ، ولكنه كان يرى أن الكتابة تبقى بدون جدوى في غياب آلية تتغيى تنزيلها إلى ساحة الواقع العملي لتتجسد فيه ، ومن هذه الآليات الناجعة وجود حزب يتبنى أفكار الكاتب ليزرعها في التربة الاجتماعية من أجل تعميقها وتمكينها حتى يبرز و يتقوى العزم على تطبيقها عمليا، وهو ما يفعله قادة الأحزاب العظام ، فلولا الحزب الشيوعي لما استطاع لينين أن ينزل النظرية الاشتراكي من طورها الفوقي إلى الطور التحتي وأن يجعلها واقعا و أسلوب حياة. ولذا كان لينين يحظى بمرتبة عالية في تفكير غرامشي إذ كان هذا يعده في طبقة المثقفين النموذجيين.
والآن بصراحة تبخر هذا الوهم لدى الكاتب و أصبح كأنما هو معزول عن العالم ، بحيث صار ـ كما قال أحد الكتاب ـ كل همه أن يبحث فقط عمن يقرأ له نصوصه ،وخاصة إذا كان شاعرا ، إذ سوق الشعر أصيبت ببوار قاس ساهمت في إيجاده عدة عوامل ، منها عدم التقيد بقوانينه ومعاييره و إقحام نصوص فيه على علاتها رغم أنفه.
لقد صار الحديث مؤرقا عن الكتابة في زمن صرنا نرى الكتّاب أكثر مما نرى الكتابة نفسها ، وبالنسبة للشعر فقد صرنا نرى الشعراء يملأ حشدهم الأفق بينما نبحث عن الشعر بينهم كما نبحث عن إبرة في القش.
0 تعليق