القدم المتورمة

بواسطة | 3 سبتمبر 2017 | مقالات | 1 تعليق

 

عقائد اليوم، وأساطير الماضي، كلتاهما تتحولان الى قوة مادية، عندما تأخذان مكانهما في عقول الناس. لكنّ الثانية تحديدا، وما يتكوّن منهما في مناخ القداسة، يكتسب من الفعالية قوة زائدة. الأساطير أول اختمار الفلسفة والدين قبل أن يفترقا لاحقا، تُرسّخ المعتقد بخلفياته الدينية مثلما رسّخت اسرائيلَ وحققتها أساطيرُ التوراة، ثم متأخرا وعدُ بلفور.

كلّما مرّ بخاطري تاريخُ الصراع المأساوي للقضية الفلسطينية وهو الموغلُ في القدم، اجد نفسي مسوقا للكتابة عن اوديب، ويعني الاسم: القدم المتورمة، هذا البطل الذي لا يضاهيه أحد في خيباته. بطل متفرّد استحصد ما لم يزرع. لم تكن له ماهية خاصة، ولا خيار خاص. مدفوع دائما باتجاه ما كتبته الآلهة، يهرب من قضائها فتحمله اليه رجلاه قسرا. لقد رآه ابوللو كما لا يريد أن يرى نفسه. بطل أعلى ما يحتذى به في التراجيديا على زعم ارسطو.

من السلالة الثالثة لقدموس خرج الى النور ملكُ طيبة وتزوج من جوكاست احدى قريباته البعيدات. ولطيبة في التاريخ حكايا كثيرةٌ و مثيرةٌ في مصر و اليونان و الجزيرة العربية. فبعد أن خطف زوس اوروبا، أو عروب،  كما تقول بعض الدراسات الأنتروبولوجية هبّ قدموس لنجدتها. وفي رحلة البحث عنها، نصحته الآلهة أن يتتبع أثرَ بقرةٍ لها مواصفات خاصة ومقدّسة.  وحيث توقفت البقرة بنى مدينة طيبة اليونانية. ومن المثير للفضول أن النبي محمد ترك حبل ناقته على غاربها ـ والغارب ما بين السنام و العنق ـ لينزل ضيفا في المكان الذي تختاره الناقة. اختارت المسيّرة مِربد تمر لغلامين من بني النجار. هناك اسّس المسلمون مسجد قباء في المدينة طيبة. ومن يدري ربما كان لطيبة الهكسوس في مصر ناقة بعير او ثور.

يقول الكاتب فاضل الربيعي في كتابه “أبطال بلا تاريخ”، أن سارد الرواية قام بأسطرة الحادثة،  فقِدْمة أو قدموس ـ على اعتبار السين لاحقة يونانية ـ يكون بناءً لهذه الأسطرة جَداً للنبي حسب قائمة الأنساب التوراتية وجَداً لأوديب بطل سوفوكل. انهم رواة الأساطير الذين ينسجون من الاحداث التاريخية أحداثا ذات أبعاد أسطورية. من سلالة قدموس خرج أغمنون ومنيلاس، وأبطال ذوو تاريخ مشبّع بالزنا وجرائم القتل وغشيان المحارم. من هذه الذرية الثالثة بدأت تتكوّن نبوءة دلف (ألابن يقتل الأب ويتزوج الأم) فمن يكذّب أبوللو؟ ومن يتجرّأ على تعديل قضائه وهو اله الحقيقة. وحده الملك مدفوعا بقلقلة النبوءة نفى عن الاله مظنّة الكذب لكنه قال: من يدري ربّما كان للنبوءة وجهان؟ ظاهر و باطن. النبوءات يعوزها الوضوح، تولد مشبّعة بالمجاز وتتنقّل فيها الدلالة من معنى الى معنى. لذا شكك الملك ببيان الكاهنة، ثم أن القتل لا يعني القتل، فقد يقتله التعب أو العطش أوابن سيّء السمعة. اعتبر ابوللو نفسه غير معنيٍ بما التبس من كلام الكاهنة، ترك الوقائع تتوالى مستقيمة تارة وملتوية تاراتٍ. أحداثٌ أسطورية فضّلتُ سرد وقائعها كما جاءت في القاموس الميتولوجي لصاحبه كاردان. الملك أكلته الشكوك وازدواجية المواقف، خائف من نفاذ القضاء ورافض لقبوله. لذا ثقب عرقوبي ابنه الذي جاء للحياة توا، وشدّهما برباط جلدي ثم أمر بتركه للوحوش المفترسة على جبل سيتيرون. هناك لن يتأخّرأن يأخذه الموت ويأخذَ معه خوفا ملأ قلب أبيه فموت الابن طعن صريح بصدق الشهادة التي أدلى بها أبوللو. الملك يتحكّم اذا بمصيره، مثلما تتحكّم الآلهة بمصائر الناس. القضاء بيدهما معا.  

ومرّ الزمن مستقيما وملتويا، ربّما مات الصبيُ أو حمله سيّارة وقالوا مثلما قال اخوة يوسف ـ والمقاربة قال بها كتاب اسلاميون ـ ثم أن الملك قتله قطّاع الطرق، فقطعوا على الكاهنة صدق كهانتها. المملكة تتعرّض لخطر داهم، انه سفنكس أو أبو الهول كائن متوحش يتربص بالمسافرين الذين يأتون الى المدينة أو يخرجون منها، متوحش يطرح على السيّارة أحجية ولا ينجو من القتل الا متوقدو الذكاء. المدينة محاصرة أغلقت أبوابها السبعة وانتظرت الموت جوعا وخوفا. طال شقاؤها حتى دخلها اوديب، قادم مهاجر ترك موطنه في بوليب بعد أن زعم أبوللو أن الفتى مدفوع بنبوءة تشابه الأولى. (قتلُ الأب والزواجُ من الأم) لذا قرر اوديب، هربا من القضاء، الّا يعودَ الى مدينة أبيه. ودفعه التشرد الى أبواب طيبة واجه الوحش وحلّ الأحجية. وبطريقة غير معللة قتل الوحشُ نفسَه. وجد الأمير في طيبة كل ما فقده في هجرته الطويلة، واعترافا بالجميل، توّجه الناس ملكا تزوّج الأرملة التي كانت حزينة، وأنجبا بناتٍ وصبيانا، وظهرت نبوءة أبوللو أكاذيبَ تلفها أكاذيبُ.

اجتاح المدينة طاعون قتل الناس والقطعان، حتى ثمار الأرض باتت متأثّرة بالوباء، من لم يمت بالطاعون مات بغيره وليس هناك من تألّم أكثر من اوديب ” ابو المملكة “، فكلّف كريون شقيق الملكة أن يصعد الى معابد دلف طلبا لمعونة الآلهة. قالت الكاهنة:

لا تستقبلوه أبدا في هذه البلاد

اطردوه من بيوتكم

ملوّث موبوء بالطاعون

من يقتْله يُمضِ أيامه غارقا في النعيم

هو فقط سبب هذه الكارثة.  

وبحماس زائد أخذ أوديب المسألة على عاتقه (والعاتق لغة: ما بين المنكب و العنق). بحث عن ترزياس وطلب منه كشف المذنبين الذين جلبوا غضب الآلهة. رفض العجوز المتنبّيء التعاون وقال: لن أقول  شيئا. لستم جميعا سوى حمقى. شكك اوديب أن يكون في صدره علما واعتبر سكوته اشتراكا في الجريمة، فاغتاظ المتنبيءُ، وتفجرت الكلمات التي لم يرد التفوّه بها كالحجارة من شفتيه: أنت هو المجرم الذي تبحث عنه. اعتبر اوديب كلامه هذيانا وأمره الّا يظهر أمامه أبدا.

قالت جوكاست ما يحدث ليس سوى سخرية، ألانبياء ليسوا معصومين عن الخطأ وليس بين الناس من يحسن الكهانة. ثم قالت لزوجها: أن عرافة دلف زعمت فيما مضى أن لايوس يقتله ابنُه وقد قتله لصوص على طريق دلف هناك حيث تتقاطع دروب المدينة، قالت ما قالت بثقة عالية. نظر اليها اوديب نظرة غريبة وسأل: متى حدث ذلك؟

قالت: قبل أن تصل الى المدينة بوقت قصير

ـ كم كان يرافقه من الرجال؟

ـ خمسة قتلوا جميعا خلا واحدٍ

ـ يجب ان أرى هذا الرجل فورا

ـ سوف تلقاه، لكن قل لي ـ  فمن  حقي أن أعرف ـ  ما يدور في خلدك

ـ لقد مررت بدلف قبل أن آتي اليكم، ثمة رجل قذف في وجهي كلاما خطيرا قائلا انني لست ابنا  لبوليبوس وانني سأقتل أبي وأتزوج أمي، ويكون لي منها أبناء لا يراهم الناس دون قشعريرة تهزّ كيانهم. أنا لم أعد الى بلدي كورثيه وعلى تقاطع الطرق شاهدت رجلا مع خدّامه الأربعة، ضربني بعصاه محاولا قطع طريقي، مغتاظا، اندفعتُ نحوهم وقتلتُهم جميعا. هل يكون الملكُ أحدَهم.

قالت جوكاست : الناجي الوحيد تحدّث عن قطاع طرق ثم أن ابنه مات على جبل سيتيرون. وبينما كانا يتحدّثان ظهر ما يوحي أن أبوللو كان كاذبا بالفعل مستهترا بقضائه، فقد جاء رسول يحمل خبر وفاة  الملك بوليبوس. صاحت الملكة وقد صدقت ظنونها، أين أنت أيها الاله وأين نبوءاتك؟ ابتسم الرسول قائلا: أحقا أيها الملك قد أخرجك من كورثيه هذا الخوفُ، أوه ايها الملك ليس هناك ما يدعو للخوف، لأنك لست ابنا لبوليبوس لقد حملتك أنا اليه، ربّاك كابنه وسمّاك اوديب لتورّم قدميك.

ومن أين أتيتَ بي ومن هما والديّ؟ قال الرسول لا أعرف عنهما شيئا، بدوي راع حملك اليّ وهو خادم الملك لايوس. اصفر وجه جوكاست قائلة الى متى تستمع الى هذه الترّهات؟ شاهد الرسول بين الحضور رجلا فقال: يا الهي هوذا الراعي الذي حملك اليّ قال الراعي امسك لسانك ايها الرجل.

ماذا أتخفي عن الملك ما يريد معرفته، قال اوديب:

لا أخفي عن الملك شيئا أجاب الراعي وما كنت لأقتل طفلا من أجل نبوءة كاذبة.

صرخ الملك: كل شيئ قد تحقق، كل شيئ مأفون وملعون. بحث عن جوكاست فوجدها مضرّجة بدمائها لقد انتحرت الملكة. وقف الى جانبها ورفع يده لا ليقتل نفسه وانما ليفقأ عينيه وقال: كان العالم مضيئا فيما مضى، الآن أصبح مظلما على حقيقته ولا تستحق هاتان العينان اللتان ملأهما الخجل أن تنظرا اليه. وثمة من زعم أنه امتلك بعد عماه بصيرة تفوق بصيرة ترزياس.

طرد اوديب من المدينة مصحوبا بابنته اونتيغون، التي بقيت وفية متمسّكة بحبه. ووجد ملجأ قريبا من أثينا حيث منحه تيزي بطلُ المارتون في القرن الخامس قبل الميلاد، مدفنا يليق بعذابات القدم المتورمة.

هذه أم المآسي، وسوفوكل أبو الشعراء جميعا، وأفضلهم تعبيرا عن روح أثينا في عصرها الذهبي وهو الذي ألهم فرويد أفكارا مهمة حول سيكولوجيا الانسان المعاصر، فافترض وجود دوافع لاشعورية تتعلّق بغشيان المحارم، وكيف يتسابق الأولاد الذكور للحصول على حنان الأم ورضاها وكيف يحقدون على الاب المنافس المتسلّط، مطلقا على ما اكتشفه “عقدة اوديب” و”عقدة ألكترا” على تنافس الاناث.

في عصر النهضة اكتشف الأدباء ذخائر العصور القديمة، فاعتلى اوديب عرش المسرح وأثار اهتمام كورنيي وفولتير، أندري جيد وطه حسين، توفيق الحكيم وغيرهم كثر. تأملوا جميعا هذا القدر الطاغي وهذا الترنح لاوديب وجوكاستا بين العقل والعاطفة، بين الخوف من تحقق القدر ورفض قبوله وكل ما كانا أكثر التصاقا بالآلهة كانا أكثر قربا من الجرائم البشعة التي عرفتها سلالة قدموس.

وبينما حاول الحكيم اضفاء الطابع الاسلامي على المأساة بقوله: “أن الهارب من قدره أملا بتغييره انما هو في الحقيقة ذاهب اليه”. قراءة راقت للجبريين الذين يعتبرون العلم المسبق للآلهة ليس سلبا للحرية ولا نفيا لها. حاول جان كوكتو في ” الآلة الجهنمية ” وعلى وقع سريالية فرنسية أن يلتقي مع ما قدّره فولتيرمن فساد الكهنة وتسلط الآلهة.

واعتبر أندري جيد أن الكهنة في كل العصور انتهازيون يحاولون فرض سلطانهم المغلّف بالدين ليس على الرعية فقط وانما على الملوك أيضا كتحالف الوهابيين مع ملوك الجزيرة العربية. تحالف أشعل حروبا دينية وسياسية لم ينطفيء أٌوارها بعد وأنجب داعش وأبناءً لا يراهم الناس اليوم دون قشعريرة تهزّ كيانهم .

كان اوديب في هذا الصراع متمردا، جاحدا للآلهة التي تنبّأت بمصيره وسلبته حرّيته قبل أن يولد. أبوللو هو الكاتب الأول والشرير الأكبر الذي ارتكب الجرائم وغشي المحارم وتصرّف بمصائر الابطال مثلما يتصرّف بها كتاب اليوم وكتاب العصور الغابرة ما خلا بطلا جرذا اعتمد على ذكائه فنجا من مصير اسود قدّره له الكاتب ابراهيم يوسف.

أبوللو هو الشرير الاكبر يا ناس الذي سلب اوديب حريته ومنعه أن يرى برهان ربه.

 

 

           

 

 

مهندس وكاتب لبناني

1 تعليق

  1. إبراهيم يوسف

    الأخ الصديق الأستاذ عادل

    كانَ أبي رحمَهُ الله يلعنُ الشيطانَ إن أخطأ أو أصاب..! وفي الحالين كانَ يسبِّحُ الله ويستغفرُه ويتوبُ إليه. فسبحانَ الله يا صديقي، كيفَ تتحوّلُ القوارضُ والهوامُ والحشرات إلى مخلوقاتٍ لها هذا الاعتبار..!؟ وتغدو من بعضِ الزّوايا؛ أبطالاً تقتحمُ وتسكنُ عمقَ الأساطير..! وتستبِدّ باهتمامِ الناس..!!

    في وقتٍ يفتقرُ فيه معظمُ أهلِ الأرضِ إلى الخبزِ اليابسِ؛ دون البسكويت والحدِّ الأدنى من التغذية والأمان، لكأنّنا يا صديقي نعيشُ في فردوس النَّعيم، أو في مناسك الحج والإحرام..! وبعد بحقِّ الله عليك؛ ألا تستوجبُ مرة أخرى، اللعنةُ على الشيطان..!؟

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أبلغني عبر البريد عند كتابة تعليقات جديدة.