فتح عينيه، وهو صغير، في مكتبة خاله، كان مدرسا للغة العربية وعاشقا للقراءة. …مكتبته عامرة بدواوين الشعر و الروايات والقصص وكتب الفكر والفلسفة والتاريخ و حتى الشطرنج و الطبخ والموسيقى ..كانت الكتب مرقمة حسب تاريخ شرائها. …قال خاله أنها تجاوزت الألف منذ شهرين. …وخاطبه: إنها مكتبتك لأنك الوحيد الذي يزورها. …لا أحد من العائلة يهتم بوجود مكتبة في بيتي. …ومات الخال في ظروف غامضة، سيفهم الشاعر لاحقا أنها كانت سياسية. …ولم يكد الشاعر يكبر حتى كانت العائلة قد باعت كل ممتلكات الخال، بما فيها المكتبة الواحا وكتبا. …كبر الشاعر وتفوق في دراسته وأصبح مدرسا للغة العربية مثل خاله وعاشقا للقراءة، وأنشأ مكتبته الخاصة، وكان ضمنها بعض كتب خاله التي عثر عليها تباع بالجوطية ،وقرر بينه وبين نفسه أن يبحث في وقائع موت خاله، خاصة أن بعض رفاقه القدماء قد وعدوه بتقديم العون والمساعدة فهم يعرفون بعض ملابسات ذلك الموت الدرامي. …قيل بسبب الإضراب عن الطعام، وقيل بأسباب أخرى اخطرها تسميم مقصود . …بنا الشاعر لنفسه سمعة طيبة بين المهتمين بالثقافة وأصبح له إسم محترم، نشرت له منابر ثقافية قصائد جميلة كانت إحداها مهداة إلى خاله: حلم شاعر (إلى خالي الذي كتب بدمه صفحة من التاريخ)
احلم بعودة الزمن
بطلة وجهك البهي
محفوفا باغلفة كتب ملونة
بموسيقى صامتة
تغني حزننا المشترك
(…..)
قيلت في حقه شهادات من كبار النقاد والشعراء خلال ملتقيات حضرها وبصم على حضور وازن وملفت للانتباه. …كان يعد ديوانه الأول. ..باكورته. …وقد تفضل بتقديمه شاعر مشهور. …
في ذلك الربيع الحزين كان مدعوا إلى الإحتفال باليوم العالمي للشعر، وكان مزهوا بتوصله بنسخة من ديوانه الأول. …أعلن للحاضرين صدور اضمومته الشعرية الأولى، فتصايح الجمهور لتشجيعه …أخذ منه أحد المنظمين الميكروفون وزف للجميع :هذا وعد منا سننظم حفل توقيع لشاعرنا في أقرب الآجال. ….هنيئا لنا بولادة شاعر عظيم بيننا. …والآن سنستمع لقصيدة من قصائد الديوان الجديد. …
وسلم المتدخل مكبر الصوت للشاعر. …
دهل الناس وهم ينظرون إلى الشاعر يصاب بصعقة كهربائية مفاجئة وغريبة. …فيسقط مغشيا عليه. ..ليهرع إليه عدة أفراد. ….محاولين انقاذه. …كانت أمطار الربيع تتهاطل بايقاع حزين، وصوت سيارة الإسعاف يخرق الأجواء. ..لكن كان الشاعر قد فارق الحياة. …..وعلى صدره نسخة الديوان اليتيم. …ودموع تختلط بامطار الربيع الحزين. …
حنين الى الذات حنين الى الشعر …رحم الله الشاعر محسن أخريف …كل المحبة والتقدير اخي العزيز سي عبدالجليل
الأستاذ الفاضل عبدالجليل
حبر قلمك ممتلئ بالواقع
وأسلوبك يأخذنا إلى أرض الحدث
ليت “الشاعر” قصة خيالية..؟
روعة سردية خلابة تعج بالحنين والحزن…
أصدقائي للحزن لون ربيع حزين حين يأتي الموت بطريقة عابثة. …والخيال يسعى إلى التقاط درات الواقع القاسي فتدمى الكلمات وتنوء الحروف. ..لكن واجب المواساة يفرض طرد الحياد. …تقديري لمروركم الطيب. ..
الصاعق الكهربائي هذا الابتكار القديم الجديد، ذو “الڤولطية” العالية و”الأمبيراج” القليل، من وسائل الدفاع الناجعة عن النفس في عمليات السلب والتّعدي.. وفي الاغتيال له فاعلية لا تقل عن المسدس كاتم الصوت.
ومن شاء أن ينال من خصمه..؟ فليس ما يستدعي أن يطلق عليه رصاصة أو صعقة بالكهربة.. إشاعة الكلمة وحدها كافية لقتله.. لكن الشاعر لا يستحق عقوبة الموت مهما بلغ عنف قصيدته.
وأنا أقرأ قصة الشاعر..!؟ تراءى لي للوهلة الأولى “أرسين لوبين”. لكني كبحت انحراف خيالي، وأنا أقع على خبر الحادث المفجع في إحدى الصحف المحلية، عن وفاة الشاعر محسن أخريف طيب الله مثواه.
أنَّى يكون الخلل أو التقصير في معايير السلامة، وأسباب الحادث المشؤوم؟ يبقى إجراء تحقيق شفاف هو المطلوب.
رحم الله الفقيد الشاعر محسن اخريف. …لا نملك أمام مأساة فقده سوى هذه الكلمات الخجولة. ..
الشاعر في القصة يشبه الفقيد في المصير الدرامي. ..لكنه يختلف عنه في التفاصيل. ..هو في البداية يحمل حلمه الصغير :إصدار ديوان. ..لكن أشواك العبث تسرقه منه. ..لماذا يموت شخص بريء بفعل خطأ شخص آخر (ليس من المفروض ان يكون مجرما عن قصد! )؟؟وإن نظرنا حولنا في هذا العالم البئيس سنشاهد آلاف الضحايا في دوامة من العنف العبثي. …والقصة هي محاولة لالتقاط هذا البؤس ونقده. …محبتي أستاذي