هل أفسدت الرواية ذائقة الشعراء وأصبحت خالية من تلك الحساسية المرهفة للجملة الشعرية أو المعنى الشعري أو العنوان الكلي للمجموعة الشعرية؟ هكذا أفكر في ديوان “الحب شرير” للروائي إبراهيم نصر الله الصادر مؤخرا عن دار نشر محلية فلسطينية، وهو في الأصل صادر عن الدار العربية للعلوم- ناشرون عام 2017. عدة تساؤلات واستفسارات تثار حول مسألة إعادة النشر، ومنها:
أولا يلاحظ اختلاف العنوانين، حيث اختلف العنوان في الطبعة الفلسطينية، واختفى منها العنوان الفرعي الذي كان في الطبعة الأولى: “طوق الذئبة في الألفة والاستذآب“. وهو بالطبع يحيل إلى مدونة سردية عربية مشهورة، وأقصد كتاب “طوق الحمامة في الألفة والألّاف” للفقيه ابن حزم الأندلسي، ولا بد للمرء من ملاحظة هذه المحاكاة في العنوان محاكاة تقليدية جدا تقلب العنوان الأصلي وتحوّره ببساطة وسذاجة كبيرة، ولعل نصر الله قد أدرك ذلك بما تبقى لديه من حس شعري، فتخلى عنه في الطبعة الفلسطينية. أبقى على “الشرير” وأطلق سراح الذئبة بعيدا، لتظل في فضاء الطبعة الأولى. مع أنه أبقى على الذئبة لتحتلّ الواجهة في غلاف الديوان، مع ملاحظة أن الموازنة بين الطبعتين ما زالت مجالا لدراسة قادمة، لاسيما وأن هناك اختلافا بين عدد صفحات الطبعتين، ما يؤشر إلى وجود اختلاف في المحتوى الشعري بين دفتي الكتابين في كلتا الطبعتين.
ثانيا: ما الذي يدعو نصر الله لإعادة نشر ديوان منشور منذ سنتين؟ وهل فعلا نفدت نسخ الطبعة الأولى؟ وما أثر الروائي على الناشر ليدفعه لإعادة نشر ديوان قديم؟ وأغلب الظن هو سعي الناشر وليس اقتراح الشاعر. وهنا لا بد من طرح سؤال سيطرة الروائي على الناشر مرة أخرى، هذه السيطرة التي لم ينجُ منها الشاعر نفسه، وخاصة في الإحالة المشار إليها أعلاه، هذه السطوة للروائي نصر الله ستساعد الناشر والشاعر نصر الله في تسويق كتاب قديم وديوان مضى عليه سنتان، بل يزيد. وهنا قد يسأل سائل: هل يموت الشعر، فهناك شعر ما زال يُقرأ منذ مئات السنين؟ بالطبع لا يموت الشعر، ولكنه بالتأكيد ليس كل شعر جدير بالحياة وإعادة الطبع، وهل بالفعل نصر الله، شاعرا، مقروء بالدرجة نفسها روائيا؟ كنت قد طرحت ذلك وناقشته في كتابي “بلاغة الصنعة الشعرية“، وتناولت هذه الحالة مع شعراء روائيين ومنهم نصر الله نفسه وغيره من الشعراء المهاجرين إلى لجّة السرد الدافئة، على الرغم من أن نصر الله نفسه روائيا ليس مقروءا بالدرجة التي يُقرأ فيها روائيون آخرون في فلسطين على الأقل.
ثالثا: ما جدوى الطباعة مرة ثانية والكتاب متوفر مجانا بنسخة إلكترونية على موقع “جملون” وهو متجر كتب إلكتروني معنيّ بالدرجة الأولى بالتسويق وبيع الكتب، وليس معنيّا بمصلحة القارئ في توفير الكتب مجانا؟ وما الهدف من إتاحة هذا الموقع الكتابَ للقراء مجانا؟ والسؤال الأهم ربما: هل يتيح هذا الموقع كل كتبه للتحميل المجاني أو كل روايات نصر الله تحديدا؟ وهل يقدّم هدايا مجانية أحيانا للقراء رأفة بهم غير كتاب “الحب شرّير“، وخاصة لمن لا يستطيع شراءه؟ ربما يفعل ذلك مع الكتب الكاسدة أو تلك الكتب الذي لا يقبل عليها القراء ليمتلكوها، وربما أيضا يسوّق بعض كتب الكاتب بكتب أخرى له، وهذه لعبة تسويقية يحكمها فكر رأسمالي نفعي بالدرجة الأولى، ولعلها لا تحمل بعدا ثقافيا يهتم بمسألة شيوع المعرفة، وسهولة تداولها. مع ملاحظة أن هذا الموقع لا يشير إلى عدد مرات تحميل الكتاب، ليكون مؤشرا قويا لإمكانية قراءة الكتاب أو الإقبال عليه، على اعتبار أن كل من قام بتحميل الكتاب سيقرأ الكتاب كله أو بعضه. وكيف لدار النشر الجديدة أن تنافس النسخة المجانية؟ وهل بمقدورها أن تمنحه للقراء بسعر رمزي، ليس تشجيعا للشاعر الروائي، بل من أجل القارئ نفسه الذي سيفاضل بين شراء رواية أو شراء ديوان شعر، فينحاز إلى الرواية؟
رابعا: هل ستفلح دار النشر الجديدة الفلسطينية في تسويق الكتاب دون الارتكاز على وصف الروائي إبراهيم نصر الله، وخاصة فيما سيكون من حفل توقيع الكتاب الذي سيحضر الروائي بوعي أو دون وعي عند التسويق لهذا المعاد رفاته من على رفوف الكتب المنسية، لاسيما وأن الشعر كما يدعي الناشرون جميعا، وليس فقط الناشر الجديد لـ “الحب شرير” أن الشعر ذو سوق كاسدة، وقرّاؤه نادرون. هذه هي حجة الناشرين، ولكن قد يكون لها استثناءات خاصة في حالة كان الشاعر روائيا، كما هو الحال مع نصر الله الروائي؟ فقد جاء في عنوان خبر إطلاق الديوان المنشور في موقع “دوز” الإخباري نقلا عن وكالة “وفا” الفلسطينية: “صاحب رواية أرواح كلمنجاروا التي فازت على جائزة كتارا،….، يصدر ديوانا شعريا جديدا بعنوان “الحب شرير“. (الخبر منشور في 19/9/2019 على الموقع الإلكتروني لدوز).
وأخيرا، هل كلّفت دار النشر الفلسطينية الشاعر نصر الله شراء مئة نسخة من الكتاب بسعر السوق؛ مساهمة منه بتكاليف الطباعة كما فعلت مع غيره؟ أشك في أنها فعلت ذلك، فالروائي نصر الله ليس شاعرا طارئا يبحث عن فرصة، بل هو روائي يتمسّح باسمه الناشرون، لما له من سطوة معرفية على القراء الذين يلتمسون فرصة ذهبية لالتقاط الصور معه كلما سنحت لهم هذه الفرصة، ليس بفعل الشعر وفضله بكل تأكيد، بل بفضل رواياته، وخاصة بعد فوزه بجائزتي البوكر وكتارا العربيتين. وبكل أريحية تتجاوز دار النشر عموما هذا الشرط مع البعض كما فعلتها أيضا غير مرة مع غير نصر الله، وليس هذا وحسب، بل إنها ستقوم بأفعال تسويقية متعددة لهذا الكتاب، مستندة في كل مرة على البعد الروائي؛ لتسند قامة الشعر التي تتهاوى بفعل أسباب كثيرة، ومنها الناشرون وتصرفاتهم بطبيعة الحال. ولهذا السبب ليس بمقدور دار النشر الجديدة، وهي دار ما زالت ناشئة وتستهدي الطريق، أن تمنح الكتاب بسعر رمزي، لدواعي الربح والخسارة لتنافس النسخة المجانية على موقع “جملون”، هل فكّرت الدار بهذا؟ أيضا لا أظن، فكون الكاتب روائيا مشهورا لا تهمها هذه الملاحظة ولم تلتفت إليها، ولن تلتفت إليها في المرات القادمة المشابهة إن فكرت بإعادة طباعة كتب منشورة سابقا، ولم تفكّر بالجدوى الثقافية قبل الجدوى الاقتصادية أو حتى العكس، لتقدم التفكير الاقتصادي على الثقافي.
آمل أن أكون مخطئا متجنيا هذه المرة، كما قد يتراءى للبعض، هذا البعض المأخوذ بهالة الروائي ليطبقها ببلادة على ما تبقى من ظلال الشاعر المنسيّ في جلباب الرواية الفضفاض، ولكنها تبدو لي تساؤلات مشروعة على هامش ديوان تعاد طباعته في ظل كساد سوق الشعر عموما، وتقلّص مساحة الشعر والشعراء والدواوين الشعرية لكبار الشعراء قبل صغارهم، ولم يبق من الشعراء المقروئين غير قلة قليلة نادرة.
0 تعليق