الخطاب الصوفي في “مفاتيح السماء”
للشاعر الأديب: وهيب نديم وهبة
للناقد الشاعر الدكتور: منير توما
تعتبر نصوص الشاعر الأديب وهيب نديم وهبة في كتابه “مفاتيح السماء” بمثابة نصوص شعرية أو كتابة بلغة شعرية، حيث يطغى على مضمون وفحوى هذه النصوص الخطاب الصوفي أو الروح الصّوفية المتسامية نحو ألوهة تتّصف بالمحبة والنقاء والتسامح من خلال رواية الأحداث المتّصلة بحياة يسوع المسيح جملةً وتفصيلا بأسلوب خلّاب يعتمد التسلسل في الأحداث والإنسيابية في العرض والجمالية الآسرة في اللغة.
لُغَتِي الرِّيحُ، وَقَمِيصِي جَسَدُ الْأَرضِ،
وَجَسَدِي جِسرٌ بَينَ آلِهَةِ الشَّمسِ وَجِهَةِ الشَّرقِ،
وَخُيولِي الْجَامِحَةُ بَينَ الرِّيحِ وَالْغَمَامِ تُسَابِقُ سَيِّدَ الدُّنيَا الزَّمَانَ.
وَالْمَكَانُ يَضِيعُ فِي مَتَاهَاتِ السَّرابِ.
إن الشاعر وهيب نديم وهبة في هذه النّصوص يرى في صوفيتهِ هنا وحدة الإله. إنه يبقي الرب أمام عينيه دائمًا.
قُلْتُ: مُبارَكٌ صُعودُ الرَّبِّ،
وَمُبَارَكٌ هُيَامُ الْقَلبِ السَّابِحِ فِي مَلَكوتِ الْعَرشِ..
مُبَارَكٌ لِلْحَالِمِينَ فِي الْعِشقِ وَالْحَامِلِينَ كِتَابَهُم،
وَعَلى صُدُورِهِم،
يَرفَعُهُم الْمَجدُ…
لهذا، هو يقبل الخير بغض النظر عن مصدرهِ. هو يقبله كأنًه هبة من الله. كل شكر ينتابه – إنما يوجّهه إلى الرّب، كل عـَظَمة لديه مرتبطة باسم الرب.
الْحُرِّيَةُ: قَمِيصُ الزَّهْرِ فِي أَوَّلِ تَتويِجٍ..
رَسَمَتِ النَّارُ عَلى شَكلِ الرّيحِ فَرَاشَةً
يَغرَقُ الْحُلمُ مَا بَينَكَ وَبَينَ الْحُرِّيَةِ
يُصبِحُ الرَّمزُ عِبَادَةً
وَالْعِبَادَةُ،
تَحرِيرُ الذَّاتِ وَالتَّوحُّدُ مَعَكَ..
وَمَعَكَ تُحلّقُ الرُّوحُ فِي سَمَاءِ الرَّبِّ
كَمِثلِ الْيَمَامَةِ.
إن النصوص في “مفاتيح السماء” تبيّن لنا أن الروح في طريقها إلى التجلّي، تجمع حولها كل الذبذبات الممكنة من مختلف المستويات، التي تجعل سعادتنا في هذه الأجواء أعمق وأقوى.
لقد رسم الأستاذ الشاعر وهيب وهبة في هذا الكتاب لوحة بألوانهِ النابعة من الرّوح وبفرشاته المنسوجة من نفسه الخيّرة المتسامية بتكوينها، فهو قد أبدع هنا صورة ما، لكنها صورة تخاطب النفس والروح ولا تغفل نقاوة الجسد، فكانت الصورة عنده مكتملة وصحيحة.
الْبَحرُ يَرسُمُ بِالْأَصَابِعِ وَالتَّلوِين.
الْأفقُ أَبعَدُ مِنْ مَدَاهُ
الْأفقُ أبعدُ مِنْ مَدَاهُ
تَعزِفُ غَابَاتُ الرِّيحِ،
نَايَاتُ الغَيابِ، وَصَولَجَانُ
الزَّمَانِ وَفَرَسُ التَّاريخِ الْهَادِرِ:
الْفَرَحُ الْعَاصِفُ آتٍ.
إن مُيول شاعرنا الصوفية في هذه النصوص الصّوفية تسعى الى تحقيق الذات العلوية وهو يبلغ مراده هذا بواسطة المثال الإلهي، وهو بهذه الطريقة يستطيع ملامسة الحقيقة، التي هي الهدف النهائي وموضوع المساعي الملتهبة والحماسية لكل روح. وهذا ليس مجرد تحقيق الذات العلوية، إنما السعادة، التي لا يمكن وصفها بالكلمات. إنها السّكـِينة – تلك السّكـِينة، التي تشتاق اليها كل روح كما يجسدها شاعرنا بأسلوبه النيّر ولغته الراقية.
لقد كان الأستاذ الشاعر وهيب وهبة في كتابه “مفاتيح السماء” يمارس حضور الإله، مدركًا وِحدة كل الوجود كما يراها الصّوفي، وهو يعمل في كل لحظة، عن وعي أو من دون وعي، وهو يثبت أمام نظره الحقيقة، دون أن يصرف نظره عن الحقيقة المطلقة لأنّ غايته الوحيدة – إدراك الحقيقة.
الشَّمسُ وَهجُ النَّارِ،
تَصحُو وَتَغفُو نُورًا عَلى مَلاعِبِ الْقَمَرِ
وَأَنتِ الشَّمسُ وَالْقَمَرُ
وَالنَّاصِرَةُ،
كَمِثلِ اللّيلِ الْمُعَلَّقِ فَوقَ أُرجُوحَةِ الرِّيحِ يَهتَزُّ،
يَرقُصُ بِالْفَرَحِ،
يَتَدَفَّقُ النَّبعُ حَتّى الْمُنحَدَرِ..
وَيَهتِفُ حَتّى الْحَجَرُ وَالصَّخرُ وَالتُرابُ وَالشَّجَرُ
تَرتَدي الْأَرضُ ثِيابَ الْقَدَاسَةِ
يَجُوبُ جُبرائِيلُ، يَسبَحُ فِي بَحرِ الْفَضَاءِ،
يَخفِضُ لَهُ الرَّبُّ أَجنِحَةَ الْوَحْيِ
وَيَهبِطُ كَالرِّيحِ الْعَابِرِ بَينَ الْوَحيِ وَالْبِشَارَةِ..
يصوّر شاعرنا عملية ظهور المسيح بكافة مراحلها بشكل يشبه إطلاق الشمس للأشعة ضمنيًا.
إن الروح العلوية تكشف عن نفسها. هذه هي طبيعتها. بمجرد أن يتجمع النور المطلق في نقطة واحدة لتتشكّل الشمس، فإنها ترسل الأشعة، تمامًا كالمسيح القائل بأنه نور العالم كما ينعكس في روح فحوى النصوص التي نحن بصددها.
وكما الأشعة هي إظهار للشمس، البشر أيضًا – هم إِظهار للرب.
من خلال قراءتنا لكتاب “مفاتيح السماء” نرى بأن شاعرنا يُشير بلغتهِا الجميله وأسلوبه الخلّاب إلى الصّلب كمرحلة من مراحل حياة السيد المسيح، وفي المنظور الصّوفي لشاعرنا، فإن كمال وتحرّر كل نفس يتوقّف على هذا الصّلب الذي يجب أن تختبره كلّ نفس.
إنه صلب ذلك الجزء من الكائن البشري، الذي أنشأه الإنسان في ذاته والذي لا يشكّل “أناه” الحقيقية، بالرغم من أنه خلال عملية التطّور دائمًا يبدو كما لو أنّ الإنسان يصلب نفسه في سبيل قيامته الروحية. ويختم شاعرنا وهيب كتابه بالكلمات:
الْمَسِيحُ قَامَ
حَقًّا قَامَ
كَرَفَّةِ الضَّوْءِ وَبُزُوغِ الْفَجْرِ
وَأنَا الْمَوجُودُ حَتّى فِي الْغِيابِ
أترُكُ لِلعَالَمِ…
أترُكُ بَينَ يَديْكَ رِسَالَةَ الْإنسانِ
“الْمَحَبَّة”
وبهذا نرى أن شاعرنا ينهج منهجًا شبيهًا بالصّوفيين الذين يعتقدون أنه مهما يكن الإنسان مؤمنًا، فإنه لا يساوي شيئًا من دون المحبة. والحُب لا يعبّر عنه بالبيانات والإعلانات، عندما يولد الحُب فإن صوته ونداءه يصبح أقوى من الصّوت البشري. الحُب ليس بحاجة للكلمات، فهي عاجزة عن التعبير عنه. الحُب يمكن أن يعبّر عن نفسه بطريقة واحدة بسيطة ومتواضعة وهي الإيمان بأنّ “الله محبه، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه”، وفي بيت الشعر التالي للصوفي الكبير محي الدين بن عربي صدى لهذه الآية الإنجيلية حيث يقول:
أدين بدينِ الحبِّ أنّى توجهتْ
ركائبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني
ومع تقديرنا واحترامنا لشاعرنا وأديبنا الكريم الأستاذ وهيب نديم وهبة، نقدّم النّص الشعري التالي كإهداءٍ له وتحيّة صادقة على إصدارهِ لهذا الكتاب مع أطيب التمنيات له بدوام التوفيق والمزيد من الإبداع والعطاء:
أيّها الشاعرُ المُستنيرْ
يا من أفـَضتَ محبةً وصفاءْ
بنعمةِ الرب القديرْ
أنتَ شاعرٌ وأديبْ
يا منْ تحملُ أسمَ وهيبْ
مجّدتَ الإله السّرمَديّ:
الإلهَ الأزلي.. الأبديّ
وقد آمنَ به كلُّ لبيبْ
وكلُّ موهوب حبيبْ
فيكَ تراءتْ شمسُ الحقيقةْ
مُذ عشقتَ نورَ العالمْ
دونَ مكاشفةٍ أو رقيبْ
فأنتَ عبّرتَ بالكلماتِ
أنهُرًا من حبٍ وفرحٍ وحياةْ
وغرسْتَ مجدًا
في أرض قداسةِ الرّبْ
حيثُ تنمو سنابلُ الإنبعاثْ
كي لا يموتَ هذا التراثْ
وكي تبقى مواهبُ الملكوتِ
زاهرةً في القلوبْ
تتجاوزُ كلَّ الذنوبْ
كزهرٍ رَبيعيٍ
يُجمّلُ معاني القيامةْ
ما بينَ جمالِ الإيمانْ
وتألقِ الأقحُوانْ
في حضرةِ الرجاءْ
وديمومةِ البقاءْ
فأنتَ بالطبعِ وهيبْ
لكلِّ فكرٍ نجيبْ
نَقـَشْتـَهُ على ورقٍ
مُسّطّرٍ بأسرارِ السماءْ
ومكتوبٍ بحبرِ النّقاءْ.
شعر : د. منير توما –كفرياسيف
إشارة:
هذه المقالات والدراسات التي تنشر الآن، بمناسبة الطبعة الفلسطينية الخاصة 2022 لمسرحة القصيدة العربية – مفاتيح السماء – عن مكتبة ودار الشامل للنشر والتوزيع- فلسطين.
بإدارة- بكر محمد زيدان رمضان
تصميم الغلاف- معاذ عبد الحق
0 تعليق