عزيزي الدكتور شوقي يوسف
لن أخبرَك شيئا عن نفسي، فأنت تعرف أنني لستُ باحثا ولا مؤرخا، وإنما أنا قارىءٌ تربكه القراءات الكثيرة في ميادين الأنتروبولوجيا. رواياتٌ دينية كثيرة يُسفّهُها العقلُ، وأخرى تاريخية تتعدَّدُ وتتعارض. قلتُ، وبعضُ القول إثمٌ، على ما زعم معترضون على الجذور الوثنية للأضاحي. قلتُ أجمعُ القراءاتِ على عللها، أرويها، وأقدمُها لك فتقرأها بلا إثمٍ، فلبعضها سحرٌ ينعش المخيلة ويثريها. فقد أفاد David Hume الفيلسوف والمؤرخ الأنكليزي، أن العملَ بالتاريخ يلطف المخيلة، يصقل العقل، ويُرسِّخ فعل الخير. هذا لا ريبَ تاريخٌ مختلف، وإلا لمَ لمْ يَصْقِلِ التاريخُ الذي نعرف، عقولَ الغارقين في نزاعاته الغابرة؟ مروياتٌ من التاريخ القريب مثقلةٌ بالتشوهات ذات الطابع القدسي، كالخلافات المذهبية، التي لا تبرد أبدا، ننفخُ دائما فيها، نخافُ أن تُبارح الذاكرة، فنُحْييها كلما أَفَلَتْ، أو خفَّت حرارتُها. ومروياتٌ أخرى من الزمن البعيد تبدو مسالمة، تكونت في فضاء الميثولوجيا، كقصص ابراهيم وأبنائه. قال Kacaroff إن القدماء عاشوا في عالم الأساطير بصفته العالم الأم. آمنوا بالأسطورة، ولم يَروا فيها اختلاقا أو وهما أو غباء. فقد كانت بالنسبة لهم واقعا حقيقيا، مستوى من مستويات الوعي، ونتاجا حسياً وشيئيا للواقع. نقل الأسطورة سلفٌ يزعمون أنهم تلقوها مسندةً من ثقاة، أو صافيةً من الوحي الأول وحيٌ وأسانيدُ يجب أن تحافظ عليهما الذاكرة ــ كما يعتقدون ــ كحقيقة من حقائق التاريخ، بلا سؤال يشوِّش الإدراك، ويدفعه للشك بسلامة الروايات الدينية.
صديقي العزيز
جاء في ميثولوجيا التوراة، أن “نمرود تنبأ من النجوم بميلاد ابراهيم، فقتل ما لا يقل عن سبعين ألف طفل (في قرية صغيرة من عهد نوح). صادفت أم ابراهيم كهفا، وقد أتاها الطلق، فولدت إبنا وقالت: “إنه لأفضل لي أن تهلك في الكهف، من أن تراك عيني قتيلا على صدري”. فأتى جبرائيلُ ملاكُ الرب ليعطيَه لبنا يتدفق من الإصبع الصغير ليده اليمنى. رضع منه عشرة أيام، وعندما رأى الشمس والقمر قال: “هناك واحد يسير كل هذه”.
وفي الميثولوجيا الإسلامية، روى الطبري وهي رواية التوراة: “ان ابراهيم وُلد في حران في عهد نمرود، حيث أتى إليه أصحاب النجوم وقالوا: يولد في قريتك غلامٌ يقال له ابراهيم، يفارق دينَكم ويُكسِّر أصنامكم. فقتل نمرودُ كلَّ امرأة حُبلى في قريته، ولم يعلم بحَبَل أم ابراهيم. فلما جاءها الطلق، خرجت الى مغارة، ولَّدت فيها ابراهيمَ وسدت بابها، ثم كانت تطالعُه فتجده حيا يمص إبهامه الذي يعطيه لبنا وإصبعا آخر يعطيه عسلا. وبعد خمسة عشر شهرا قال لأمه: أخرجيني. فلما خرج رأى الشمس فقال: هذا ربي…”
صديقي العزيز
لقد كتب Hérodote وروى من التاريخ المُعاين، ما ينقذ الأحداث من غياهب الخرافة والنسيان. أراد أن يَطْبعَه نقيا في ذاكرة الناس. أقول التاريخ وليس الأساطير، فهو وحده المألوفُ والموثوقُ فيه من مصادر المعرفة، تلك التي يفارق فيها العقلُ حمولة جَدَّ مؤسطرة للإيمان الديني. يفارقها العقل غير آسفٍ، ليلجأ مرتابا، يقظا، وشكاكا الى فضاء المعرفة التجريبية، جامعا معلومات غزيرة تدفّقت عليه من كل تجربة رائدة. فراقب وقارن ونسّق معارفه الجديدة، ليشكل منظومة فكرية متراصة مما صاغه Copernicus و Giordano Bruno Kepler،Darwin و Newton… راكم معارفه حتى خرجت لوحةُ العالم الجديد من وصاية الحقائق الدينية الساكنة، الى دينامية العقل الذي يأبى أن يهدأ ويستكين و يرتاح.
سفه ابراهيم قومَه على ما هم عاكفون عليه من عبادة التماثيل. فلما مضوا في عبادتهم قال: (…لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين). ولما دعوه للإحتفال بيوم العيد قال: إني سقيم. ثم انصرف الى آلهتهم وهم غائبون فجعلها جُذاذا. قرروا حرقه. يقول ابنُ كثير “جعلوه في حفرة من الأرض. أضرموها نارا لم يوقَد مثلُها، لها شررٌ عظيم ولهبٌ مرتفع. أُلقيَ ابراهيمُ فيها فقال: “اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك” فبرَّد الله النارَ. وحتى لا تُحْرج النارُ المُبرَّدة فلاسفة الإسلام، ألغوا قانون السببية، فكان جبريلُ معه يمسحُ عرقَ وجهه. (وفي روايات أخرى أنه لم يتعرق) وجاء في التلمود أن الله قال: “أنا وحيد في الكون، وهو وحيد في عالمه، فمن اللائق أن يذهب الوحيدُ ليخلصَ الوحيدَ في بني جنسه”.
ويقول الطبري: خرج ابراهيم بعد ذلك مهاجرا حتى قَدِمَ مصر، وبها فرعونٌ من الفراعنة الأُوَل. كانت ساره أحسنَ الناس… فلما وُصف لفرعون حسنُها وجمالُها، أرسل الى ابراهيم وقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال هي أختي. وتخوف ابراهيم إن قال هي امرأتي أن يقتله عنها. فقال لابراهيم زينها ثم ارسلها إلي حتى أنظر إليها. فرجع ابراهيم الى ساره وأمرها فتهيأت ثم أرسلها. فلما قعدت إليه، تناولها بيده فيبست إلى صدره… فأعظم أمرها وقال: ادعي الله أن يُطلِقَ عني، فوالله لا أريبُك ولأحسْن إليك… أطلق الله يده فردَّ ساره الى ابراهيم، ووصلها هاجرَ جاريةً له قبطية.
وتقول التوراة: إنه لما قارب أن يدخل مصر قال لامرأته: “أنا أعلم أنك امرأةٌ جميلة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: “هذه امرأته” فيقتلونني ويبقونك على قيد الحياة، فقولي إنك أختي حتى يُحسنَ إليّ بسببك، وتحيا نفسي بفضلك” …رأى المصريون أن المرأة جميلة جدا… وصفوها لفرعون، فأُخِذتْ إلى بيته، وأحسن الى أبرام بسببها. فصار له غنم وبقر وحمير وخدام وخادمات وحمائر وجمال. ضرب الربُ فرعونَ وبيتَه ضرباتٍ شديدةً… استدعى فرعونُ ابراهيم وقال: لِم قلتَ هي أختي حتى أخذتُها لتكون امرأتي. خذها وامض.
صديقي العزيز
قارن ــ إذا شئت ــ بين ذنبيْ ابراهيم وفرعون في الرواية الدينية، أو تجاوز ذلك لما أنت منصرفٌ اليه في رعاية مرضاك. فأنت تتعرف في اختصاصك كطبيبٍ ورجلِ علم، على كثير من قوانين الطبيعة، لا سيما المكتشفة حديثا، وعلى التاريخ المفترض لنشأة الكون. وكنا معا في جلسات السبت نتبادل المعلومات المتواضعة عن الإنفجار الكوني الكبير، وعن الكواكب التي اكتُشِفت، عن الفيزياء والبيولوجيا، وعن القوانين التي يكتشفها علماء حصدوا المزيد من جوائز نوبل. لقد تراجعت الأساطير، وأُنْزِلَتِ الأرضُ من على قرني الثور لتدور حرة في الفلك الواسع، تُشكِّل الفصول، تصنع الليل و النهار، تنظم مع الشمس حركة الريح، وتتفاعل في بطنها أسبابُ البراكين. كل يوم نتعرف على اكتشافاتٍ جديدة، تأخذ من صلاحيات الآلهة الشيءَ الكثير، لتضيفَه الى قوانين الطبيعة الصارمة. فتتراجع الأساطير لتختبىء مهزومة في اللاوعي. وانا أكتب لك أيها الصديق عن الحقائق الدينية المهزومة التي تعاود الظهور بين حين وآخر، يمر في خاطري من “خفايا التوراة” خِبْرةٌ طريفة، رواها الصليبي عن الرحالة J.b.Philby، وهو يجول مستكشفا في وادي بيشة السعودي قال: “لمحتُ صبية تقود قطيعا من الماعز، فأشرتُ الى مرافقي “خَلَفْ ” بأن كأسا من الحليب قد يكون منعشا. فوافق على ذلك. وما لبث أن نادى بأعلى صوته: يا راعية الغنم! فتقدمت الصبية نحونا وتوقفت على مقربة منا. حلبتْ واحدة من مِعازِها في طاسة من الخشب ثم جاءتْنا بها وعلى وجهها ابتسامةُ الثقة. كانت صبيةً حسنةَ المنظر، وعليها خَرْقٌ من اللباس يبرز ملامحَ جسم فتيٍ لا عيبَ فيه… أردتُ أن أعرف المزيد عنها فقال خَلَفٌ: هي أختي وهي بعدُ غير متزوجة. ضحكت الصبية مؤيدة قوله… كان من المفترض أن يرافقني خلف في المرحلة التالية من استكشافاتي، فاعتذر قائلا: إن لديه ما يقولُه لأخته. وعندما عدت الى المخيم لم يكن قد رجع بعد. لكن والده كان هناك، سألني وعلى وجهه علاماتُ الخبث: ماذا فعلتَ بابني؟ قلتُ: تركتُه مع أخته وماعزِها. فرد مقهقها، أختُه! أيقولُ الآن أنها أختُه! بل هي زوجته. وقد بدا لي الأمرُ كأنه صدى من أيام ابراهيم. “ولم يروِ Philby إذا كان قد أحسن الى خلف بسبب أخته واكثر من ماعزه. وخِبْرَةٌ أخرى أيها الصديق أرويها لك من ذكريات الجزائر. كنتُ في العاصمة عندما اتصلتُ بشركة الطيران الجزائرية لأحدد موعد سفر لي. بادرتُ الموظفة بالقول: يا عزيزتي، فأقفلتِ الهاتف في وجهي وعندما عاتبتُها في مركز الشركة، تصرفت بخجل زائدٍ وقالت: لم أعرف أنك أجنبي. عرفت بعد سنتين أن كلمة عزيزتي يتداولها الجزائريون بمعنى “زيزة”، التي نستعملها في لبنان للإشارة الى العضو الذكري. وعندما رويتُ الحادثة للباحث الكبير كمال الصليبي، ضحك كثيرا، وأخبرني أن الكلمة أثر حيٌ من بقايا العبادات الوثنية. فقد كان عزيزُ إلها للخصب من آلهة ثمود، يُرْمزُ اليه بالعضو الذكري. وعدَّه الدكتور جواد علي: من آلهة تدمر أيضا، وأزيزو في النقوش المكتشفة، تحريف لعزيز في الكتابات اللاتينية والآرامية. وهو الإله اللماع ذو الأشعة البراقة التي تشبه لمعان الفوسفور.
من وحي الرحلة المصرية، يذهب Tim Murphy الى أن ابراهيم كان مصريا أصيلا. فقد وصف زوجته قائلا: “بالحقيقة هي أختي ابنةُ أبي غير أنها ليست ابنةَ أمي فصارت لي زوجةً”. وكان زواج الأشقاء مصريا بامتياز، يقتصر على الأفراد الكبار من العائلة المالكة المصرية. ويقول الكاتب لست وحدي فيما ذهبتُ إليه لأن الحاخام سولومون آيزاكس ذهب قديما في المنحى ذاته. فقد رفض أن يكون أبرام راعيا بدويا. غنيا كان الرجل، ومن عائلة عالية، يُترجَمُ اسمُه في المصرية القديمة، بلقب الأب الرفيع المقام، وهو لقب طقسي يستخدمه فراعنة مصر. وساره هي التعبير المصري لكلمة أميرة. ولم تكن هاجر إلا ابنة أحد الفراعنة من إحدى عشيقاته. ويسجل سفر التكوين علاقة غريبة بين ساره والفرعون فيها كثير من الشُبُهات. كما أثار التلمودُ البابلي شكوكا حول الأبوة الحقيقية لإسحق، فهو لقيط على ما يشير المصدر البابلي بقوله: “هل رأيت الرجل والمرأة العجوزين اللذين أحضرا لقيطا من الشارع ويزعمان الآن أنه ابنهما؟”
وتتعزز قناعة الحاخام بزواج اسماعيل من امرأة مصرية، وبما قاله ملكي صادق ملكُ القدس أو عشّارُها، الذي استقبل ابراهيم، أخذ عُشْرَ ما معه، زوجه ابنته هاجر على رواية الكسائي وقال: “مباركٌ أبرام من الله العلي مالك السموات والارض” والتعبيرُ شائعٌ في مصر كصفة لإله المعبد الأعلى. وكذلك فرضه الختان المصري على جميع أحفاده بأمر من الله العلي. والختان كما يقول Murphy كان إلزاميا لدى العائلة المالكة المصرية منذ عام 4000 ق.م. ولم تعرفه الشعوب المجاورة. لكن رغم كل التعزيزات التي يجمعها Tim Murphy، “فلا تاريخ واقعي لما وصفته التوراة، ولا وجود لجماعة اسرائيلية في المدونات المفصلة والكثيفة للتاريخ المصري. ولم تستطع جهود البحث الأثري أن تُحدث أيَّ خَدْشٍ على سطح المسألة”. وقد كتب Sigmund Freud وكان الى جانب شهرته الأساسية عالما توراتيا: “أن لا وجود لأي أمة أو قبيلة عبرية في عصر موسى. ولا كينونة لتعبير عبريٍ قبل النفي البابلي”. وقد تساءل علماء توراتيون “كيف يمكن لشعب متشرب بمثل هذا الجزء الأساسي من حكمة مصر أن يختفي من السجل التاريخي المصري بشكل غامض. إن ما يزيد على مئتيْ عام من البحث في الصحاري والقبور والمعابد لم يظهر للبحاثة أيّ أثر على الإطلاق”. ويعزز مصرية ابراهيم، ما قيل عن موسى الذي كان كسابقه يؤدي واجباتٍ كهنوتية اتجاه أتون. وكان قد أكد قول Murphy كتَّابٌ ومؤرخون كبارُ من العصور الأولى: منهم المؤرخ المصري والكاهن الأكبر في القرن الثالث قبل الميلاد مانيثو. والمؤرخ اليهودي في القرن الاول قبل الميلاد فيلو الاسكندري. والمؤرخ اليهودي في القرن الاول الميلادي فلافيوس جوزيفوس. وقد رجّح Freud أن يكون موسى هو أخناتون نفسه أو أحد أفراد حاشيته وقال في كتابه “موسى والتوحيد” إن الصلاة الإسرائيلية: “اسمعوا يا إسرائيل إن الرب إلهكم هو إله واحد” (Shema Yisrael, Adonai eloheinu, Adonai echad) هي تكرار للصلاة الأتونية، ذلك أن الحرف العبري (d) هو في الترجمة تمثيل للحرف المصري (t) فتصبح الصلاة: اسمعوا يا إسرائيل إن إلهنا آتون هو الإله الوحيد.
أمام تعدد الروايات، وربما تعارضها، تصبح التفسيرات المثيرة في عالم الأنتروبولوجيا، وما ذهب اليه الصليبي حول ألوهية ابراهيم، أكثرَ واقعية في البحث التاريخي. فالخرافة الكامنة في الرواية الدينية للتوراة، ــ وهي الأساس ــ تفترض أن يكون هناك آلهة غيرَ يهوه الذي ورد اسمُه في مجمع آلهة ثمود ولحْيان. وهو الإله الأكبر عند العبرانيين. فالإسم يهْ أو يهوَ ورد في الأعلام المركبة للحيانيين، مثل أوس يَه وأوس يَهوَ وعزز يَه وعزز يَهوَ. وكان قدماء بني إسرائيل يطوفون حول خيمة الإله يهوه، ومنهم تعلم الجاهليون الطواف حول البيت الحرام، على قول المؤرخ الكبير جواد علي، في تاريخ العرب قبل الإسلام. وكان يهوه إلها دمويا، غيورا، متعاليا، لا يسمح لأحد أن يقترب منه، أو يرى وجهه. يسكن وحده جبل الهان غربي تعز، وهي منطقة بركانية تلائم سكن الآلهة. يجوبُ الجزيرة العربية ويتدخلُ في شؤون الآخرين، يبطشُ بهم، ينازعهم الألوهية، ويحرِّضُ بعضَهم على بعض. لا أصدقاء ولا حلفاء لديه، فقد مسخ إله المعرفة وإله الحياة، وهما القريبان منه، شجرتين في جنات عدن.
ولأنه أنانيٌ متسلط، طلب من بَرَمْ الإله اليمني القديم او أبرام أو ابراهيم أن يتخلى عن ألوهيته، ويصبح تابعا له مقابل أن يزيل عنه صفة العقم والحصر الجنسي. رضي برم بذلك، وجعل يهوه علامة عهد بينهما لم تزل قائمة حتى تاريخه:
“هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يُختتن منك كلُّ ذكر، تُختتنون في لحم غُرلتكم، علامة عهد بيني وبينكم”. قَبلَ بَرَم بالختان وتخلى عن لحم غُرلته فزالت عنه صفة العقم وأصبح قادرا على الإنجاب. وقد حفظت الأديان التوحيدية هذا العهد، بما فيها المسيحية الأولى. وفي الحديث: “يُحشر الناس يوم القيامة عُراةً غُرْلا بُهْما” أي قُلفا على خلاف ما هم عليه الآن. ولم يزل الإعتقاد الشعبي ساريا أن القُلْفة ملازمة للحصر الجنسي. وهكذا ترى يا صاحبي كيف يحمل الإعتقاد الشعبي أحيانا من التاريخ القديم ما تحمل اللغة، والقصة التي ترويها التوراة عن ابراهام وقبوله التضحية بابنه نزولا عند طلب الله، تُنسب في النص الأصلي للتكوين الى ابرام الذي كان الإلهَ برم.
قرر الآلهة أن يمتحنوا ابراهام، وكانوا قد تعجبوا من سهولة تخليه عن ألوهيته للرب يهوه طمعا بالخصوبة. أحبوا إعادته الى صفوفهم، وكان قد أصبح له ابنٌ وحيدٌ يعرِّفه النص بانه اسحق. لذا كان على برم وقد استحسن العودة الى صفوف الآلهة أن يرد إسحق إلى واهبه. أخذ ثمرة اتفاقه الأول مع يهوه الى مكان يقدمه كمحرقة. أمسك الصبيَ ورتب مذبحا جمع عليه الحطب. وما أن مد يده ليأخذ السكين حتى تدخل يهوه بواسع حيلته وقال: ابراهام…ابراهام… لا تمد يدك الى الغلام قد علمتُ أنك خائف الله فلم تمسك وحيدك عني.
وهكذا يقول الصليبي: أظهر يهوه الإفتراضَ بأن ابراهام كان ينوي تقديم الإبن كمحرقة لاسترضائه، لا أن يتخلص منه ليلتحق برفاق الألوهية. ومن أجل ذلك أوجد الكبش. لم يتمكن الإله برم من الخروج عن العهد، الذي تخلى بموجبه عن ألوهيته للرب يهوه صاحب الحيلة الواسعة والذي يقول الصليبي: أنه سجل لنفسه انتصارا كإله كبير بين الآلهة.
نادرا ما تعثر يا صاحبي على شخصيات تاريخية بين الأساطير، وإنما تلقى أبطالا أحياء من البدايات الأولى، هم كاملو الحضور في حياتنا. فكل يوم تسمعُ من يقول: هذه أختي. وهذه “زيزة” طفلنا. هذا كوكب نبتون، هذا مارس، هذا ابراهيم، وهذه مجموعة أندروماك. لا تزال الأساطير تتنفس بأنفاسنا. من الحكمة أن نتعرف عليها وقد استوطنت أجمل قصائدنا. ومن الحكمة أكثر أن نضعها حيث كانت، في الماضي الذي اندثر. نُلطّف بها المخيلة كما دعانا المؤرخ الانكليزي، ونرقى بحكمتها الى سَمْت العقول التي صقلها العلم والتجربة.
اعتبر الدكتور طه حسين أن الإبراهيمية نبتٌ غريبٌ مستورد إلى مكة، وقد نشطت مروياتٌ كثيرة لتربط اسميْ ابراهيم واسماعيل بالكعبة التي خَرَّتْ ساجدة عندما حملت أمُّ ابراهيم به. أعطت المرويات لمكة اسم “كوثا” القرية التي ولد فيها “النبتُ الغريبُ” (النهروالي). ولم ينفِ الرواةُ هاجرَ الى واد غير ذي زرع، إلا ليبنيَ ابراهيمُ الكعبة ويُؤذنَ فيها للحج (قصص الأنبياء). ويتفق أكثرُ الباحثين على أن مكة إسم سبئي جنوبي من الكلمة ميغراب، التي تعني المكان الذي تُقدَّم فيه القرابين. وورد اسمها في جغرافيا العالم المصري ــ الإغريقي بطليموس ويرجح أنها بنيت في القرن الثاني الميلادي (لامنس)، أو أبعد قليلا. ويقول الدكتور جواد علي أن ميغراب ليست إسما علما لمكة وإنما هي في الأصل نعت لها، فقد كان الواحد من حكام سبأ أو كهانها يسمى مقرب، أي المقرب للآلهة أو القريب منها.
قام Louis Massignon بتطوير النظرية التوراتية حول أصل العرب، وهي نظرية توفيقية ذكية تقول: إن الوعود التي أغدقها الله على ابراهيم، تُصيب اسماعيل بصفته الإبن البكر. الأمرُ الذي يعطي من وجهة النظر المسيحية أساسا توراتيا وقيمة إضافية لنُبوة محمد باعتبار انتسابه الى اسماعيل. غير أن الدكتور سليمان بشير في كتابه “التاريخ الآخر” يقول أن المسيحيين يرون من ناحية ثانية أن نفيَ اسماعيل وأمِّه، نفيٌ للأحفاد العرب من الجماعة المسيحية وخروجهم منها. كما يقول Theodor Nöldeke في المعنى ذاته: إن الإسلام هو الصيغة التي دخلت بها المسيحية الى بلاد العرب كلها.
كان اليهود والمسيحيون يستعملون إسم اسماعيل كمُرادف للعرب، وغالبا ما تكون روايةُ الإنتساب لأب واحد روايةً أسطورية. وقد تبنّى هذه التسمية وهذا الإنتسابَ قبائلُ عربية كانت قد تنصَّرت وتهوَّدت، بدليل أن إسم اسماعيل لم يكن منتشرا قبل الإسلام. لا بل يعتبر بناؤه بناء غريبا عن اللغة العربية، هجينا في قواعدها. وفي العصر العباسي، في حمأة الصراع القبلي بين الشمال والجنوب، جعلت الرواية العباسية من عدنان إبنا لاسماعيل، ليجعلوا عرب الجنوب خارج النسب الإسماعيلي. علما أن الجنوب هو مصدر الأساطير التي تتعلق باسماعيل فهو في الحقيقة الإله سين الذي ورد في القرآن، والذي حمل اسماعيلُ صفاتِه. وقال بعض الباحثين ممن درسوا الحضارات القديمة إنه إله القمر. لم يكن سين وأبوه صناعةً توراتية، وإنما هما بحق صناعةٌ يمنية جنوبية. فابراهيم هو “جامع الشمل” لقب قصي جد النبي، وهو في تاريخ مكة كَ Thesée أو Romulus وأضرابهما ممن أثّروا في حياة بعض المدن القديمة (جواد علي). واسماعيل هو “ذو المطابخ” و “ذو الأعوج”. يذكر ذلك الكاتب الفلسطيني زكريا محمد ليؤكد على مفهومين متنقلين عبر العصور الأولى. وهما على غير ذي علاقة مع التوراة. ففرس اسماعيل الأعوج، وحمار ابراهيم، جمعَهما في الإسلام البُراق. الذي وصفه البخاري بأنه حيوانٌ أبيضُ دون البغل وفوق الحمار. ويقول المؤلف نفسه إن اسم اسماعيل ورد في النصوص العربية الجنوبية سمعئيل وهو الإله اليمني “سين” الذي كان يوصف بأنه “ذو المطاعم”، وهو أيضا “ذو حلسم” وهي كلمة تربط الإله مباشرة بالمطر. ما يتوافق مع اللغة العربية، ومع ما يقوله ابن منظور: أحلست السماء، يعني مطرت مطرا رقيقا دائما، وحلست: دام مطرُها وهو غير وابل. وأحلست الأرض: اخضرت وكثرَ نباتُها. فسين هو إله المطر والسحاب. كما أن الصفة الثانية التي أطلقت على اسماعيل: “ذو الأعوج” هي صفة سين الذي يُدعى أيضا ذو عسم والعَسَمُ هو الإعوجاج ففي قاموس العين للخليل أن العسم يبسٌ في المرفق تعوج منه اليد. وفي لسان العرب العَسَمُ يبس في المرفق ، وهو الخبز اليابس أيضا.
الجدبُ والخصبُ أيها الصديق مفهومان متنقلان عبر العصور، يتجاذبان الجزيرة العربية ويملآنها بالأساطير. فإذا كان سين أو اسماعيل إلها للمطر الخفيف والرقيق، فالعائلة المقدسة كلها لا تخرجُ عن مفاهيم الخصب والعقم. ففي غياب الرويات ذات الطابع التاريخي، تبدو اللغة بمخزونها دليلا عقلانيا لفهم الأساطير التي تتلبس لباسا دينيا، لتحميَ نفسها من مساءلة العقل واللغة. يقول الصليبي: إن ابراهام وبالتصويت التقليدي للعبرية، يقابله بالعربية ء ب رهم أي أبو رهم وهو من الأسماء الشائعة في الجاهلية، وهو أيضا من الرَهَمِ اي المطر الخفيف الدائم. فالرِهْمَةُ في لسان العرب، هي المطرُ الضعيفُ الدائم، الصغيرُ القَطْر، والجمع رِهام. وهي أشد وقعا من الديمة وأسرعُ ذهابا. أما الزوجة ساره وهي في التصويت العبري ساراه ودائما على ما يقول الصليبي، يقابلها في العربية أل سراه وهي الأرض اليابسة والقاحلة والعاقر التي لا تلد. ويذهب الباحث للجزم بأنها إلهة أنثى وليس إلها ذكرا. أما إسحق فتصويتُه العبري يَصْحاق والجذر صحق، يقابله في العربية جذر ضحك والجذْران يفيدان الضحك، الذي يعني فيضان البئر. أضْحكَ حوضَه في لسان العرب ملأه حتى فاض. وهو الحَيْضُ أيضا والمعنى “قريب بعضُه من بعض لأنه شيءٌ يمتلىء ثم يفيض”. والضحَّاكُ هو الفيَّاضُ، أي الكريم المعطاءُ.
وهكذا يتضح سِرُّ الخرافة في قصة ابراهيم وساره، إنها عائلة من أرباب الخصب، تفتقدها الارض الجُدوبُ والفلاةُ الشَحاحُ. أسطورة يوجزها الصليبي بقوله: إلهةُ السراة القاحلة والعاقر حبلت من ابراهيم إله المطر وولدت اسماعيل إله السحاب واسحق إله الآبار.
أيها الصديق العزيز
أنت من الذين يسعون لمعرفة المزيد من تاريخنا، والتاريخُ القديم يجذب ــ على رأي أمين معلوف ــ كثيرا من الراغبين في إنعاش الذاكرة، علما أن العديدَ من مراحله تُحرِّكُ أو تثيرُ في النفس رغبة النسيان. وما قاله Paul Valery، وقد نقلتَه لي مرة، يناسبُ ما نحن فيه. فالتاريخُ يا صاحبي “أخطرُ إنتاجٍ أعدَّته كيمياءُ العقل، يُغْرِقُ الإنسانَ في أحلامه، يُسْكر الشعوبَ، ويُولِّد عندها ذكرياتٍ لا أساسَ لها… (أو ذاتَ أساسٍ) تنكأ جروحها القديمة، تُقلقُ راحتها، وتجعل الأمم شريرة، متغطرسة، مغرورة، مزعجة وعقيمة”. والتاريخُ المؤسطرُ كابوسٌ لا تفيقُ منه الأمة أبدا، يبررُ لها ما تشاءُ من حروبها الأهلية، تراوح دائما فيها، إذا لم تُخلّصْه من الأساطير ومن عوامل التفجير الكامنة فيه. ومن ينظرْ الى الخلفيات التاريخية والدينية لحروب المنطقة اليوم يدركْ حقيقةَ ما قاله Valery: إن الشعوب السعيدة بحق هي الشعوبُ التي لا تاريخ لها.
كاتب النص ينفض الرماد عن الجمر المتوهج في الأسطورة واقترانها بالديانات القديمة وديمومتها في اللاوعي الانساني حتى عصرنا الحالي. ابداع وشمولية تليق بالكتّاب الكبار. شكرا على ما خطّ قلمك الذي لا يتعب. كل الحب لك.