أراغون
بين إلسا وليلى الغرناطية
عاش الشاعر والروائي لويس أراغون رائدا من رواد السريالية، وكان له مع هذه الحركة الفكرية التي أسسها أندريه بريتون جولات في الشعر والأدب. صادق الكاتبة ذاتَ الأصول الروسية إلسا تريوليه، وكان من نِعم صداقتها أن سفح أمام زُرقة عينيها كامل ثروته اللغوية إذ كان يكفي أن يكتب قليلا من الكلمات لتصبح أدبا كما وصفه أحد الشعراء الفرنسيين. عاش أراغون في طفولته عذابات الفقر، وحمل بين جوانحه كرها عميقا للحياة البرجوازية، الأمر الذي دفع كتابته نحو الإلتزام السياسي ليؤمن كما آمن الشيوعيون بكفاءة الجماهير الشعبية (البروليتاريا) على الفعل والتغيير.
أُجرِيَ معه عام ١٩٦٤ خلال حرب الجزائر حوارٌ صحفي قال فيه لا ريب أن الأحداث التي تجري في شمال أفريقيا قد كشفت لي عمق ما أجهل، كما كشفت لي مدى افتقاري للثقافة الحقيقية، لكن لم أكن الجاهل ولا الفقير الوحيد فيها.
ليس هذا الجهل على ما وصف جهلا فرديا، بل تجاهل غربي لدَيْنٍ من العلم والفلسفة نقلهما الى الأوروبيين جميعا عربُ الأندلس. ولم يكن مجنون إلسا إلا وفاءً لهذا الدَين الذي جسّده الروائي أو الشاعر الفرنسي في ملحمة شعرية عن سقوط غرناطة في ظل آخر ملوكها (أبو عبدالله). وإمعانا في التجهيل رفع الأوروبيون من شأن تاجر الرقيق كولومبيوس في رحلة البحث عن الذهب لتمويل حملات صليبية جديدة. لقد كان أراغون يرى ان الحب في هذا الصراع الحضاري لا ينمو إلا في حدائق الشرق وصحرائه على قياس الحب الذي مثّله قيس بن ذريخ في لُبنى، أو الملقبُ بالمجنون قيسُ بن الملوح الذي يتنقل في شوارع المدن يغني ليلى الغرناطية التي تجسدت بالكاتبة الروسية إلسا. وكان قيس الذي ملأ شوارع الأندلس غناء وفرحا، عاشقا مطاردا من سلطات الظلام بتهمة الزندقة والخروج على النظام. جُلد قيسٌ ثم سُجن ثم جلد ثم سجن أمدا طويلا، ولما خرج الى الحرية كان ملوك إسبانيا يغزون غرناطة. لجأ قيس الى جبال الغجر، وعندما أصبح عجوزا في ربوعها انصرف لتمجيد الزمن الغابر وإحياء حبه المنصرم الذي جعلته محاكم التفتيش هذيانا (دون جوان) وإرهابا قتل صديقه زيدا، أعدم غارثيا لوركا، وهدد كل الذين علا غناؤهم في شوارع المدن ليُسعدوا القلوب الحزينة.
نغني لكي يمضي الوقت
كما لو أننا نُسعد القلبَ برمي الحصى في المستنقع الساكن للحياة
لقد شغل أراغون القرن العشرين صخبا وسجالا بحكم ميوله الستالينية، لكن حضارة الأندلس صرفته عن السجال وسحرته بما رشح عنها من رقة وسُمُوٍ وشغف بالحياة فكتب (نشيد إلسا) و(عينيْ إلسا) و(مجنون إلسا)… في الوقت الذي كان يتعلم فيه لغة بطله قيس بن الملوح حتى فاضت كتاباته وعناوين كتبه بكثير من المفردات والتعابير العربية. فقال في عينيْ حبيبته إلسا
أحببت وأنا أقرأ هذه المقاطع الجميلة، أن أقدّمها هدية لزوجتي الحبيبة وقريباتي هويدا وفريال وفوزية اللواتي يتقاسمن مع إلسا عيونا ملونة تتأرجح ما بين الأخضر والأزرق، وقد عزَّ – للأسف – فيهن الشعرُ وقلَّ حولهن الشعراءُ. ولتكتمل متعة الفرح أو الجنون بالعيون الزرق، راودتني الرغبة في ترجمة النصوص الشعرية، فاتصلتُ بصديقي ذي السيوف السبعة في الزراعة واللغة والترجمة والنقد والفلسفة والتاريخ والأنتروبولوجيا… والتي أضافها لثقافته في سبع سنين على وزن وعدد الآلام السبعة لمريم. والصديق القديم يُمْكن الإعتمادُ – وقتَ الضيق – على سعة علمه ورِفْعة خُلُقه وعلى سرعته في مد يد العون والمساعدة. فكان كما قال أراغون صديقا كالحطب العتيق في الليل الحالك والبارد والقارس. وأتت الترجمة كما توقعتُ بعيدةً عن التصرف وخيانات النقل، أمينةً، جديرةً بالثقة، وفاضلةً كسيدة لم تنسَ عفافَها أبدا تحت ضغط جمالها الشامخ والسرمدي.
عيناك بعيدتا الغور، أنحني لأروي منهما عطشي
فأرى الشموسَ مقبلةً تتراءى
وفيهما يرتمي فاقدو الأملِ حتى الرمقِ الأخير
عيناك بعيدتا الغورِ، فيهما أضعتُ ذاكرتي
……….
من ظلِّ العصافير يعتكرُ المحيطُ
يهدأ بغتةً، فيتغيرُ بسكونه لونُ عينيك
الصيفُ يبدِّدُ الغمامةَ ذاتَ المئزر الملائكي
والسماءُ ما كانت أبدا زرقاءَ كما هي فوق سنابل القمح
……….
الرياحُ تطردُ عبثاً أحزانَ السماء الصافية
وعيناك أكثرُ صفاءً منها تفضحهما دمعةٌ لامعةٌ
بعد المطرِ تغارُ السماءُ من لازوردِ عينيك
والبلّورُ لا يبدو أبداً أكثرَ زرقةً إلا في انكساره
……….
يا أمَّ الآلام السبعة، أيها الضوءُ المشبّعُ بالرذاذ
سبعةُ سيوفٍ تخترق موشورَ الألوان
وينبلجُ نهارٌ حادٌ مريرٌ من بين الدموع
وقزحيةُ العينِ المثقوبةُ بالسواد أكثرُ زرقةً في حدادها.
……….
“عيونِك شوكةٌ في القلبِ
توجعني… وأعبدُها
وأحميها من الرِّيحِ
وأُغمدُها وراءَ الليل والأوجاع… أُغمدُها
فيشعل جُرحُها ضوءَ المصابيحِ
ويجعل حاضري غدُها
أعزَّ عليَّ من روحي
وأنسى، بعد حينٍ، في لقاء العين بالعينِ
بأنّا مرة كنّا، وراءَ الباب، اثنين !
رأيتكِ ملءَ ملحِ البحرِ والرّملِ
وكنتِ جميلة كالأرض… كالأطفال… كالفلِّ
وأُقسمُ
من رموش العين سوف أُخيط منديلاً
وأنقشُ فوقه شعراً لعينيكِ” “م. درويش”
أمّا وقد أكرَمنا الحكيم أكرمه الله، وأكْرَم السامعين الأفاضل ممن يضنيهم العشق وجمال العيون، وهو يشمل زوجتي ويشير إلى قريباته الأخريات من ذوي العيون المزرورقة أو المخضوضرة، تلك العيون مهما اجتهد وشحذ مخيلته الطبية الأدبية الخصبة في تصويرها؟ تبقى قاصرة عن بلوغ مراميها.
وكنت تعلمتُ من أمثولة وأنا أساعد ابنتي في شرحها، معنى مفردةٍ فرنسية جديدة “Pers” كنتُ أجهلُ علامَ تدل؟ وكانتْ كما بدا لي من سياق الدرس أنها تتصلُ بالعيونِ الجميلة، اجتهدتُ في تفسيرها وأخفقتُ في معرفةِ ما تعنيه بالتحديد، حينما رحتُ أستجلي “المنهل” في معنى المفردة العصيَّة.
فإذ بها تشيرُ إلى خليطٍ مدهشٍ ومتجانس من عدة ألوان. تواؤمٌ بين الأخضر الزيتوني الداكن، والأزرق الخفيف الشاحب، والبنفسجي الصافي، يتمازج في لون لا شبيه له ولا ينتسب للفانين من الخلق. ولو لامس من بعيد عمق عيني “إلسا”، “وشربات جولا” أو أثينا من آلهة اليونان القديمة.
وأوديسيوس “الحكيم” في طريقه إلى منافي الموانىء، على متن شراع تائه معطوب وسط بحر بلا شواطىء. لكنني أشهد لوجه الحق أن الترجمة حققت بعض غايتها، ولو عادت إليّ لبدأتها كالتالي:
وأنا أجثو على ركبتيّ لأشرب
كل الشموس رأيتها مقبلة من عمق عينيك
رأيت اليائسين يلقون بأنفسهم إلى مملكة الفناء
لتضيع ذاكرتي المنهكة في قعر البحار
في ظل النوارس يضطرب المحيط
لا لشيء…؟ إلاّ ليتغير لون عينيك
يطوي الصيف الغمام من مئزرها الملائكي
والسماء لم تكن لتبدو أبدا
كما هي فوق سنابل ناظريك
وبعد؛ أصل الحكاية في عيون بهيّة زوجتي.
كانت بهيَّة – بهيَّتي – تطعم طفلتها
والطفلة ابتدأت تميِّز.. وتحكي
حينما راحت تحدق في جه أمها
وبدا لها أن شيئا يسترعي انتباه طفلتها
فتبسمت لها وشجعتها على الكلام لتحكي
وهي تسأل ابنتها:
علام تمعنين النظر هكذا في وجهي؟
قالت الطفلة أتطلع إلى عينيك يا أمي
وما بال عينيَّ يا حبيبتي؟ سألت الأم
وردّت الطفلة ببراءة خالصة وصدق.. وتشبيه
لا لبس فيه تقول: عيناك متل عينين البسينات
عينا بهية، عينا بهية، عينا بهية
أربع بهيِّات صلِّ عالنبي عليهن
ولأن الحديث عن العيون الجميلة؟
فهذا سعيد عقل يتولى مسك الختام
طالَتْ نوىً وَبَكَى من شَوقِهِ الوَتَرُ
خُذْنِي بِعَيْنَيْكَ.. واهْرُبْ أيُّهَا القَمَرُ
قد غِبْتُ عنهم ومالي بالغيابِ يدٌ
أنا الجناحُ.. الذي يَلْهو بِهِ السَفَرُ
يا طَيِّبَ القَلْبِ يا قلبي..؟ تُحَمِّلُنِي
همَّ الأحِبَّةِ إنْ غابُوا وإن حَضَرُوا
من جهتي ومن باب المودة الصادقة، عندي ما يكفي ممن يكتبون في الروافد، ولست بحاجة للمزيد من الهَمّ أو العبء الجديد. ويبقى من الوفاء القول: “مش ناسيكن، وفضلكن على راسي من فوق”.
تصحيح: يشير إلى قريباته الأخريات من (ذوات) العيون المزرورقة أو المخضوضرة. هناك دائما من يكرمني ويعلمني ويصحح عثراتي وأخطائي. فلا تحرجني هفواتي ولا تخجلني أخطائي.
للمفرد المذكر – (ذو) (ذا) (ذي) ** للمثنى (ذَوا) (ذوَيْ) ** للجمع (ذوو) (ذوِي).
للمفرد المؤنث (ذات) ** للمؤنثتين (ذواتا) (ذواتَيْ) ** للجمع (ذوات).
ردة فعل على التعليق
تبلَّغ وبلِّغ؛ من النصوص المميزة
التي ثأرتَ بها لنفسك
فتبلَّغ وبلِّغ بدورك من جديد، أن
أجمل عيون
أنا شفتها
ألله عليك ألله
على سحرها
عيونك معايا
عيونك بداية
عيونك حياتي
من غير نهاية
ليسامحك الله
أيقظت عواطفي
من جذورها
بدون مجاملة
يمكنك ببساطة
أن تحول التعليق
الى نص بديع يدور حول
جمال العيون والسحر الذي يكتنف
عيون زوجتك وحسناوات..الحكيم
دون أن تغفل عيون البسينات
الم يخامرك شعور الغيرة عليها
والحكيم يشملها
مع الاخريات في الحديث
عن سحر عينيها والتغزل بهن؟
من باب المودة بيننا؟ لا ينبغي
أن تتهاون مع من يتجاوزك
أو يدعس على طرف عبايتك